أكاديميون افتراضيون! 

محمد البكري:

هناك ظاهرة تستحق دراسة أكاديمية – ويستحسن أن تكون بالميكروسكوب – ظاهرة الأكاديمي الذي لم يعد يكتب اسمه إلا وهو محمولٌ على عرش من الألقاب.

هذا الكائن، الذي يكتب منشوراً في فيسبوك وكأنَّه ينشر اختراعاً أو يُقدِّم نظرية علمية غالباً، ما يلفت النظر إلى ألقابه الطنانة ليرهب المتفاعلين مع صفحته المقدسة؛ فبعد لقب الدكتور أو البروفيسور أو الأستاذ الدكتور يتوهم المتلقون أنَّه العالمي الموسوعي الشامل الكامل الباذخ الشاهق الخارق… إلخ. ثُمَّ يتضح أنَّ موضوع المنشور هو: فوائد شرب الماء، أو أهمية الابتسامة، أو عدد حروف الجر، أو التحريض على فستان الفنانة فلانة… إلخ.

كثيرٌ من هؤلاء متمرِّسٌ على الفسبكة الوعظية، وإتقان الفذلكة اللغويةواللعب على الكلمات، والتصدُّر للفتوى والاحتساب على كل من يخالف العادات والتقاليد والأعراف، متملقاً للجماهير التي ما تزال رهينة المديح العام والنفير العام.

تراهم يعتقدون أنَّ إضافة لقب “دكتور” قبل أسمائهم تجعلهم فوق البشر، وفوق النقد، وكلما كان اللقب طويلًا، كان معنى ذلك أنهم أكثر علماً ومعرفة!

كثيرٌ منهم يتكىء على لقبه ليفتي حتى فيما لم يقرأ فيه، وهم مستعدُّون للظهور حتى في لعبة أكروبات ويقدِّمون أنفسهم بجدّية: “معكم الدكتور الجهبذ المتخصص في القفز على الحبال، واليوم سأشرح لكم بعمق كيف تكون مهرجاً بمنهجية دقيقة وعميقة.

ليسوا أكثر من ملصقات أكاديمية، كلهم يعلن عن نفسه مسبوقاً باللقب، وقد يقيم الدنيا لو خاطبه أحدهم بدون ذلك اللقب الحلزوني السحري، ولا يضعون في اعتبارهم أنَّ اللقب قد يكون مثل البلاستر على جرحٍ متعفِّن.

يتجاهلون أنَّ الألقاب ليست دليل علم، بل في كثيرٍ من الأوقات تغدو دليل تستِّر على فراغ، فراغ معرفي، فراغ إنساني، وفراغ ثقة بالنفس أيضًا. ولأنَّ الفراغ مرعب، يغطّونه بالمظاهر وإشهار الإشادات التي تلقوها، ولا يخجلون من التنويه بمدح مادحيهم، حتى إنْ كان ذلك المديح تملقاً من طلبته الذين يرهبهم ويقمعهم، ولا يمكن أنْ يكون مديحهم له إلا استجداء لأنْ يخفف من عنترياته، أو سخريةً من تلك الذات المتهافتة على الثناء والتطبيل.

يا لها من رحلة! رحلة تبدأ بشهادة ورقية محدودة بموضوعٍ ما، يتقادم عليه الزمن، وتنتهي بمنشورات فيسبوكية مليئة بالمهاترات والتبجح، وبعد هذا قد تجد الأكاديمي يشكو من عدم تقدير العلماء-إشارةً إلى ذاته- ويشرح لماذا يجب على البشرية احترامه، وتقديم الولاء.

من منطلق أنَّ اللقب الأكاديمي نتيجة لعمل صاحبه في البحث العلمي، وهو قد حصل عليه كإجازة على بحث، أو على سبيل الإشارة إلى أنَّه حاول أنْ يكون باحثاً، يفترض أنْ يعمل هذا الأكاديمي بصمت، وأنْ يظل مُستحضِراً ما يقتضيه البحث العلمي من ضرورة الفهم والشعور الدائم بإمكانية الخطأ، وهو ما يعني التخفف من وهم الأستاذية وأن يصغي للنقد ويتقبَّل الآخر.

أما هؤلاء؛ فالاستعلاء طريقتهم في إيهام الناس بالعلم، ومنهم مَنْ يستيقظ من النوم ليكتب ما مفاده: “تنويه هام: أنا دكتور. وعليكم أنْ تسمعوني، فأنا أفهم وأنتم لا تفهمون”. ثُمَّ ينام بعدها،مطمئناً إلى أنْ الكون لن ينهار ما دام قد ذكَّر الناس بذلك.

منهم مَنْ يتظاهر بحب الحوار وقبول الاختلاف ويحشد أي تعبيرات ويلقيها في وجوه الناس، وإنْ حدث استدراكٌ عليه من أحد متابعيه، حذف الاستدراك وأردف بأوداج منفوخة: “أنا دكتور، أنا عَالِم!” وقد يجر الحديث إلى ما يظن أنه مربعه ويقول: “هذا تخصصي!”، فهو لا يقبل إلا من يشيد به وينوّه بعبقريته.

معظمهم، كل إنجازه العلمي لقاءات وزيارات وهذيانات وترديدات، وفسبكة لولبية. ويا ليتهم اكتفوا بأن يضيعوا في متاهة القيل والقال وحدهم، فهم يضيعون وقتنا أيضًا، ويهدرون ثقتنا بالعلم والمعرفة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى