الابتزاز الإلكتروني وجرائم وسائل التواصل الإجتماعي بين عبث التكنولوجيا وغياب الوعي القانوني

القاضي منصور محمد القباطي ، رئيس محكمة المواسط والمعافر :

لقد أفرز التطور التقني الهائل في وسائل التواصل الإجتماعي، من فيسبوك وتويتر وواتساب وتليجرام وانستجرام وايمو وغيرها، نوعًا جديدًا من الجرائم التي تمسُّ الإنسان في كرامته وشرفه وسمعته وحياته الخاصة، وهي ما تُعرف بـ جرائم تقنية المعلومات أو الجرائم الإلكترونية.

ومن أبرزها اليوم جرائم الإبتزاز الإلكتروني ضد البنات والنساء، وجرائم السب والإهانة والتشهير والتهديد عبر الإنترنت، وهي جرائم باتت تتفاقم كل يوم حتى أصبحت ظاهرة إجتماعية وأمنية تهدد السلم العام والثقة في العدالة.

أولاً: طبيعة هذه الجرائم وأسباب تفشيها :

من المعلوم أن هذه الجرائم تتميّز بخصائص تجعلها أخطر من الجرائم التقليدية، فهي تُرتكب خلف شاشات مغلقة وبأسماء وهمية يصعب الوصول إليها بسهولة، ويستغل المجرمون الفراغ القانوني، وضعف التنسيق بين الجهات الأمنية، واحتكار الشركات الدولية لمعلومات المستخدمين (مثل فيسبوك وتويتر) التي ترفض تسليم بيانات المستخدمين إلا عبر مذكرات رسمية من جهات قضائية عليا في إطار تعاون دولي.

ومن هنا نشأ عبث إلكتروني خطير، حيث أصبح بإمكان أي شخص أن ينشئ مئات الصفحات بأسماء وهمية وصور مزيفة، ويقوم بسب الناس وابتزاز النساء وتهديد الفتيات دون خوف من الملاحقة.

ثانياً: الإطار القانوني للجريمة الإلكترونية :

القانون الجنائي ما زال متاخرًا ولم يتطور بعد بالسرعة المطلوبة في مواجهة هذه الجرائم، ونحن بحاجة لمسابقة الزمن في تطوير المنظومة القانونية لمواجهة التطور المعلوماتي غير أن الأفق في بلادنا ما زال مظلمًا وما علينا إلا أن نرجع إلى المبادئه العامة لوضع الأساس القانوني لمواجهة الجريمة الإلكترونية من خلال تطبيق الأركان العامة للجريمة مع الإهتمام بالإجراءات التقنية في تحقيق هذه الوقائع للوصول إلى الأدلة الواضحة والحقيقية في في إثبات أو نفي مثل هذه الجرائم ونسبتها إلى فلان من الناس باعتبارها تتم في فضاء الكتروني واسع الأفق ومن تلك الأركان العامة:

الركن المادي: وهو كل فعل ينشر محتوىً أو رسالةً أو صورةً تمس كرامة شخص أو تهدده أو تبتزه.

الركن المعنوي: ويعني القصد الجنائي، أي نية الجاني في الإساءة أو الابتزاز أو التشهير.

الوسيلة: وسائط إلكترونية، وهي تقوم مقام الوسائل التقليدية كالخطاب أو القول العلني.

وبناءً عليه، فإن السب أو التهديد عبر الإنترنت هو جريمة مكتملة الأركان، بل أشد خطراً لأن أثرها يتجاوز النطاق المكاني إلى فضاءٍ مفتوح يطّلع عليه ملايين الناس.

ثالثاً: إجراءات التحقيق في جرائم وسائل التواصل الاجتماعي :

وهنا مكمن الخطر والانحراف، إذ تُرتكب أكبر الأخطاء في مرحلة جمع الاستدلالات والتحقيق، سواء من بعض المحققين غير المؤهلين أو المتأثرين بالضغوط والعلاقات الشخصية.

ولذلك ينبغي على عضو النيابة أو المحقق الجنائي أن يلتزم التزاماً صارماً بالإجراءات والأصول التالية:

1. التأكد من جدية الشكوى فيجب قبل قيدها أو مباشرة أي إجراء، يجب التأكد من وجود دلائل جدية على ارتكاب الجريمة، وأنها ليست كيدية أو انتقامية.

2. التحقق من هوية المتهم الإلكتروني، لا يُعتمد في ذلك على أقوال الشاكي أو شهودٍ استنتاجيين، بل يجب طلب تتبع تقني رسمي من الجهات المختصة (إدارة الاتصالات، وحدة الجرائم الإلكترونية بالتنسيق مع الوحدة المختصة بمكتب النائب العام)، لأن الشاكي قد يختلق صفحة وهمية لإيقاع خصمه.

3. تحريز الأدلة الرقمية بصورة فنيةحيث يجب أن تُوثّق المحادثات والصفحات والمنشورات من خلال أدوات معتمدة، ويُرفق بها تقرير فني يثبت سلامة المصدر وعدم التلاعب فيه.

4. الالتزام بتعميم النائب العام الذي وجّه النيابات بوجوب تحققها من وسائل الإثبات الرقمية والتنسيق مع الجهات الفنية المختصة بمكتب النائب العام قبل توجيه الاتهام، وعدم الاكتفاء بالشهادة أو الظن أو الاستنتاج الشخصي.

5. تحقيق مبدأ الحياد والاستقلالحيث لا يجوز للمحقق أن يتأثر بعلاقاته أو باتصالات من شخصيات نافذة أو مدّعين بالنفوذ، لأن العدالة لا تُقام على المحسوبية بل على القانون وحده.

رابعاً: وسائل الإثبات في الجرائم الإلكترونية :

وسائل الإثبات يجب أن تكون يقينية فنية وليست ظنية قولية، وتنحصر في:

1. التحليل الفني للبريد الإلكتروني أو رقم الهاتف
عبر الجهات المختصة التي تستطيع تتبع مصدر الرسالة أو الصفحة.

2. إثبات الملكية الرقمية للحساب وهو إثبات من الشركة المالكة للمنصة (فيسبوك، تويتر…) بناءً على طلب رسمي قضائي.

3. الصور واللقطات (Screenshots) يجب أن تكون مؤرخة، موثقة، ومطابقة لمصدرها الأصلي.

4. الشهود لا يُقبل إلا الشاهد الذي رأى المحتوى بنفسه، وليس من سمع أو ظنّ أو استنتج.

خامساً: خطورة التساهل والتحامل في التحقيق:

من أخطر ما يُفسد العدالة أن يتولى التحقيق محقق عديم الضمير يكتفي بأقوال الشهود الكاذبين أو التقديرات الشخصية دون فحص فني، فيزجّ بإنسان بريء في السجن بناءً على ظنّ أو خصومة كيدية ناهيك أن التقصير في التحقق التقني يجعل من احراءات المحقق اجراءات باطله تجيز للمتضرر رفع دعوي مخاصمة اذا صدر حكم عليه بناء على اجراءات التخمين دون اتباع الاجراءات التي تستلزمها مثل هذه الوقائع، باعتبار أن ذلك يعد انحرافاً في استعمال السلطة، وجريمة في حق العدالة نفسها، وهو ما حذر منه المشرّع والقضاء على السواء. حيث قالت محكمة النقض المصرية في حكمها الشهير: “إذا بُني الاتهام على الظن والاحتمال دون دليلٍ يقيني، فالحكم بالإدانة يكون باطلاً لمخالفته أصل البراءة ومبدأ اليقين في التجريم والعقاب.”

سادساً: حماية البنات والنساء من الابتزاز الإلكتروني:

إن أخطر ما يترتب على هذه الجرائم هو الانتهاك المعنوي والنفسي لكرامة المرأة، وابتزازها بصورها أو محادثاتها الخاصة.

ولهذا يجب أن تُعامل هذه القضايا بسرية تامة وسرعة عالية، وأن تُوفر الحماية للمجني عليها، لا أن تُعامل كمتهمة.

وفي هذا الاطار ينبغي على النيابةاتخاذ الاجراءات التالية:

– الحفاظ على خصوصية الضحية.

– عدم نشر اسمها أو بياناتها.

– الإسراع في مخاطبة الشركات الدولية لحجب المحتوى.

– محاكمة الجناة أمام دوائر مختصة بالجرائم المعلوماتية.

سابعاً: نحو مبدأ قضائي مستنير:

يُقترح أن يُستقر مبدأ قضائي يُبنى عليه العمل القضائي مستقبلاً، نصه: “لا تقوم مسؤولية جزائية في جرائم النشر الإلكتروني والوسائط الاجتماعية إلا بثبوت الدليل الفني القاطع الذي يربط بين الوسيلة الإلكترونية ومستخدمها ربطاً يقينياً، ولا يكفي في ذلك الظن أو الشهادة غير الفنية أو التخمين الشخصي.”

هذا المبدأ يضع حداً للعبث، ويصون شرف الناس وكرامتهم من الكيد، ويحمي القضاء من أن يُستغل أداة للانتقام الشخصي.

فالعدالة في زمن التكنولوجيا لم تعد تقتصر على النصوص، بل تحتاج إلى ضميرٍ يقظٍ، وعقلٍ قانونيٍ مستنيرٍ، ومحققٍ يزن الأمور بميزان الحق لا الهوى.
فكم من مظلومٍ حُبس بسبب صفحة وهمية، وكم من فتاةٍ فقدت حياتها بسبب ابتزاز إلكتروني لم يُلاحق فاعله.

ولذلك فإن التعامل مع هذه القضايا يجب أن يكون بمنتهى الجدية، لا إفراط ولا تفريط: لا نبرئ المجرم المتخفي،ولا نظلم البريء بسوء الظن.

والله الموفق”””””””

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى