الاقتصاد الذي لم يكتب… وحين صار الإنسان هو الخاسر الأكبر

د. أمين عبدالخالق العليمي:

في خضم الضجيج العالمي المعبأ بالأرقام، والرسوم البيانية، والمؤشرات، غفلنا عن سؤال بسيط وعميق:

هل لا يزال الاقتصاد في خدمة الإنسان؟ أم أن الإنسان صار خادماً للاقتصاد؟

مقالات ذات صلة

في البدء، لم يكن هناك اقتصاد كما نعرفه اليوم، بل كان هناك قمح يزرع، وقرابين تُقدَّم، ويدٌ تعمل لتأكل لا لتُستعبد.

الإنسان كان هو المحور، وكانت الأرض شريكة له، والسوق مجرد مساحة تبادل، لا ساحة صراع،

لكن شيئاً ما انكسر حين قفزت “الربحية” على ظهر “القيمة”،

وصار المال غاية، لا وسيلة،

وصارت الوظيفة عبودية بربطة عنق،

وصار الإنسان يقيس نفسه بسعره في السوق، لا بحريته، ولا بأثره، ولا بصدقه،

لقد اخترعنا البنوك بحثاً عن الأمان،

فاكتشفنا لاحقاً أن تلك البنوك باتت تتحكم في قرارات الحكومات،

واخترعنا السوق كي نبيع ونشتري،

فإذا به يتحول إلى مالك لكل شيء حديث نُقدّم له أعمارنا، ونعيش في ظله، ونخاف من غضبه،

ثم اخترعنا البورصة، فابتلعت سنابل القمح، وأبراج الأمل، وربما أعمار ملايين لا يملكون لغة الأرقام،

تحول الإنسان من منتج للخير، إلى منتجٍ رقمي قابل للتسويق،

أصبح جسده يباع في الإعلانات، ووقته يستهلك في تطبيقات، وصوته يؤجر، وخصوصيته تجمع،

حتى صار هو نفسه المنتج الأخير في هذا السوق المجنون،

وباسم “النمو”، خسرنا الراحة،

وباسم “الربح”، خسرنا المبادئ،

وباسم “المرونة”، خسرنا الاستقرار،

وباسم “الوظيفة”، خسرنا الحلم،

ما الذي حدث؟

كيف سمحنا لهذا الوحش الناعم (الاقتصاد الحديث) أن يمتص أرواحنا ونحن نبتسم؟

كيف خدعونا بجملة: “هكذا يعمل السوق”… وكأن السوق قانونٌ إلهي لا يُراجع؟

لقد صعد الاقتصاد على أكتاف الفقراء، ومرّ فوق أحلام الطبقة الوسطى،

واستقر في جيوب قلةٍ لا تعرف طعم الجوع، ولا تنظر إلى الفلاح، ولا تسمع صوت الموظف،

ولا تشعر أن تحت هذا الهيكل النتن… إنساناً يُستنزف كل يوم باسم “الفعالية”،

لكن…

لا يزال هناك أمل!

حين نعيد السؤال إلى موضعه الصحيح:

من يخدم من؟

حين نقول: الاقتصاد يجب أن يُبنى على الكرامة لا الجشع،

على الكفاية لا الفائض،

على العدل لا الاحتكار،

حين نقرر أن السوق لا يحكمنا، بل نحكمه،

وأن السيادة لا تخرج من خزائن البنوك، بل من إرادة الشعوب،

حين نُعيد الإنسان إلى مركز المعادلة،

يومها فقط،

يعود الاقتصاد إلى صورته الفطرية:

وسيلةٌ لحياةٍ أفضل، لا آلة لسحق الإنسان،

إن من يتحكم بنا اليوم ومن يحكمنا ليس ملكاً، أو رئيس دولة، أو رئيس حكومة،

إن من يتحكم بالعالم اليوم، ومن يتحكم بنا، بسعر الصرف، بعملتنا، بالبناء، بالعمران،

رجل ولا أبالغ إن قلت قد يكون شخصاً واحداً، عضواً في مجلس إدارة شركة خبيثة وخبيث، متمركز في برج عاجي،

يمتلك المال والثروة، ويتحكم بمصائر الشعوب التي ترفع يدها كيد خشبية،

في أي وقت يحتاجها إرادياً أو لا إرادياً،

يرفعها بماله وثروته متى ما شاء، وينصّب ويسقط من يريد ومتى ما يريد، والمهم هو رضاه عنه، ومصلحته،

في ظل شعوب مخترقة من عميل دنيء، ومن إعلامي، وناشط، وصحفي باع دينه وضميره ووطنه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

شاهد أيضا
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى