الحنين: حينما يسكن الماضي قلب الحاضر

كأن الزمن قرر أن يعود بي عبر بوابة الحلم، حيث مساحات الذكرى تنبض بالحياة من جديد. رأيت نفسي عائدًا إلى قريتي الحقب، تلك الأرض التي غبت عنها قسراً أحد عشر عامًا، لكنها لم تغب عن وجداني لحظة واحدة. كان الحلم أشبه بسفرٍ إلى عالم نقيّ، حيث اختلطت التفاصيل الحسية بالمشاعر الجارفة كعاصفة رقيقة تحملني إلى أعماق الذكرى.
لم يكن الحلم مجرد رؤية عابرة، بل كان شعورًا يفيض كالمطر الذي كان يروي حقول القرية في أزمنة خلت. جبالها الشامخة، وديانها المخضرة التي كانت تمتد بحقول الذرة الرفيعة والشامية، كل شيء بدا كما تركته، وكأن الزمن هناك توقف انتظارًا لعودتي. كانت الأمطار تهطل بغزارة، الشلالات تتدفق من على جبالها، والجداول تجري بعذوبة في سواقي الحقول المنبسطة. لحظة أقرب إلى القصيدة منها إلى الواقع، وكأن الحلم اختطفها من ذاكرة الطفولة المبللة برائحة التراب الممزوج بالمطر.
أنا رجل مطري، تسكنني الرعود والبروق كجزء من روحي، يحتلني المطر بكل ما يحمله من أمل وحياة. أعيش بأحاسيس الحراثة، الزراعة، الحصاد، وكأن حياتي كلها انبثقت من رحم تلك الأرض التي علّمتني كيف يكون الانتماء. حتى في الحلم، شعرت أن قلبي يخفق مع كل قطرة مطر تسقط على تلك الأرض التي كنت أسابق أنسام الصباح للوصول إليها.
رأيت نفسي قادمًا من قرية رباط الحرازي المحاذية لقريتنا، تأملت ضريح المتصوف محن عمران بشغاف قلبي قبل عيني وتذكرت حينها كلما سردته لي مسنات قريتي عن قدراته الخارقة في شفاء المعتل وجلب المستحيل!! وحين أشرفت على أولى حقول الذرة لقريتي الحقب، لاحت أمامي ملامح منزلنا، فاندفعت إليه بكل لهفة العالم. كان شعورًا يتجاوز الفرح البسيط؛ كان اقترابًا من روح كنت أبحث عنها. كل زاوية، كل نافذة، وكل جدار كان يناديني. رأيت طفولتي تنظر إليّ من خلف أركان المنزل، رأيت أمي تبتسم لي كما كانت تفعل دومًا، وكأنها على موعد مع عودتي.
لكن فجأة، كما في كل الأحلام التي تسكنها الحسرة، تبددت تلك الصورة النقية. أصوات الرصاص اخترقت هدوء المشهد، ومجموعة مسلحة من الحوثيين ظهرت فجأة لتقطع الطريق بيني وبين منزلي. كانت لحظة صادمة، تحطمت معها الحلم واستيقظت. لم يكن هذا الحلم الأول الذي منعت فيه تلك الحرب اللعينة وصولي إلى قريتي، بل كان الحلم المائة، وربما الألف.
ويا لقسوة القدر حين يمنعك حتى في المنام من تحسس وجه أمك الذي استوطنه الحنان، أو لمس يدي أبيك الخشنتين، اللتين أرهقتهما السنون من أجلك ومن أجل مستقبلك. كيف لهذا القدر أن يحجب عني لحظة أعود فيها، ولو حلماً، إلى كل تلك التفاصيل التي كانت تشكّل عالمي؟ كيف لي أن أعيش غربتي دون أن أرتشف من معين الذكرى؟
اشتقت لوادي الربش، حيث يثور الزهر بكل ألوانه في الصيف والخريف، وحيث يعانق عبيره الأفق. اشتقت إلى خرير جداول الذرارية والركب والصنجري، وإلى تلك اللحظة الأثيرة التي كنت أنحني فيها لأشرب من ماء بحر البجر في خارم وردة الوطية، ذلك الماء الذي، رغم اختلاطه بالطين والكدر، كان أعذب ما ذاقه لساني. كل تلك التفاصيل العزيزة باتت حلمًا بعيدًا، محجوبة عن ناظري، اشتياقي لشخوب المطر وقد حجبت عن عينيَّ قريتيَّ الظاهرة وجولل ومذاق بلس الترد المشوك على منحدرات جبل القفلة والحصن بعد يوم ماطر بارد وقد أدمت أطراف أصابعي لحظة قطافه بشوكه الحاد الأصفر.
لقد أشعرتني الغربة أن السنين التي هجرت فيها بلادي وناسي لم تكن مجرد أعوام تمر، بل دهورًا لا تُقارن حتى بعمر الصخور. إن الحنين هنا ليس مجرد شعور، بل هو نداء خفي إلى دهر خلا، إلى حياة كانت تسكنني بكل تفاصيلها، إلى لحظة أستعيد فيها كل شيء ولو للحظة.
كيف لي أن أصف هذا الحلم كما شعرت به؟ كيف أكتب عن الحنين الذي يشبه المطر، يتسلل إليك دون استئذان، يغمر قلبك ثم يتركك غارقًا في برك الشوق؟ ربما الحنين هو الحكاية التي لا تنتهي، والبيت الذي لا تصل إليه، والحلم الذي يصحو قبل اكتماله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى