الدهشة أصبحت سلعة نادرة

عبدالباري قاسم:

تنزعج من فكرة الرتابة، تبحث عن شيء لتقرأه، فيلم لتشاهده، بودكاست عن الفتور، أو مقالة عن كيف “تستعيد شغفك خلال عشرة دقائق”، رغم أنك تعرف مسبقا أن لا شيء من هذا سيحدث. لكنك تفعل من باب المراقبة التجريبية، تفعل لفهم محاولة إنقاذ الروح من اللاجدوى.

الدهشة أصبحت سلعة نادرة.

مقالات ذات صلة

تشعر أنك توقفت عن الإحساس بها، لا تدري متى بدأ هذا العطب فيك، كل ما تعرفه أنه حدث، أحيانا تلقي باللوم على نفسك، كأنك أنت من اخترع مصطلح “انعدام الشغف” وأدرجه في قاموس علم النفس، ثم ابتلعه العالم، وأصبح تشخيص رسمي.

تشتم تلك اللحظة التي أخترع فيها البشر أسماء لأمراض لا علاج لها، ليبرروا خمولهم الوجودي

تفتح قائمة جهات الاتصال. تمر على الأسماء واحدًا واحدًا كما لو أنك تفتش عن شيء. تتوقف عند محادثات، ورسائل لا تعرف متى وصلت إليك، تفترض أن حديثًا مع رسالة قد يوقظ فيك دهشة صغيرة. تتردد، تتراجع. ثم تتقدم بخطوة ذهنية. لا تكتب شيئًا، لا تتورط أرجوك.

الإنترنت عندك “طلقة”، يدفعك ذلك إلى ارتكاب حماقات بحثية:

تكتب في جوجل أكبر حماقة ستكتشفها” كيف أندهش من جديد”

تظهر أمامك نتائج لا تنتهي: مقاطع، مقالات، روايات، أفلام رمزية، كلمات مكررة عن “إعادة الاتصال بالذات” لا تقرأ شيء، لا تبكي، وحتى أنك لا تضحك. لا شيء يستوقفك، لا شيء يسرقك ساعتين من الزمن، لا شيء يجعلك تفرح بكونك وحيدا مع فكرة واحدة فقط.

تلجأ كعادتك إلى العالم الافتراضي:

أشخاص يتناوبون على اختراع قضايا سياسية، ومثلها أدبية يهاجمونها ثم يتصالحون معها بعد أسبوع.

مؤثرون يبيعونك إيموجيات، كتاب كنت تقوم بزيارة صفحاتهم تجدهم يكتبون الآن منشورات عن كيفية الكتابة الحقيقية فعلا.

كل شيء أصبح هراء، أنت هراء أيضا.

ينفد كرت الإنترنت. تبدأ رحلة البحث عن كرت جديد في سراويلك القديمة، في الأدراج، بين الجدران، تبحث عن نفسك. تعثر بدلًا من ذلك على ورقة نقدية من فئة 200 ريال، ترتدي ثيابك المتعرقة، تشم رائحتها، تلك التي تعرفها تمامًا: رائحة أيامك التي لا تتغير.

تخرج إلى الحي، لا تجد بقالة مفتوحة، يعود بك الضجر إلى الغرفة، تجد رقم صاحب شبكة الواي فاي. تسجله في الهاتف وتكتب له رسالة متقنة، تصيغها بعناية كما لو أنك تراسل الله نفسه. تخبره أن الأمر طارئ و ستسدد له قيمة الكرت لاحقًا، ستطرحها عند أقرب صاحب محل يتعامل مع كروته اللعينة، تنتظر الرد. تمرّ ساعة، وأخرى، ثم ليل كامل. لا يرد.

تضحك. تفكر أن هذا، بالضبط، ما يُسمى “دهشة العصر”: أن تنتظر كرت نت، ولا يأتي.

تجلس على الأرض. تتساءل: ما الذي أبحث عنه بالضبط منذ سنوات؟ ما هذا الهوس بالعثور على شيء لا أعرف ما هو؟ الدهشة؟ لا، ليست الدهشة وحدها. ربما الملل.

لا، أي ملل؟ الملل رفاهية لا يملكها أحد في مثل هذا الحال الرتيب، الملل:” الذيل الخفي للسعادة” وأنت لا ذيل لك، ولا سعادة.

تتصالح مع هذا الخلل، هذا” اللاشيء”الذي يسكنك، وتفكر أن أفضل طريقة للتعامل معه هي مصافحته. تتفقان على فعل أكثر شيء لا تتفقان بشأنه: القراءة

تفتح رواية منسية كنت تتهرب منها منذ زمن. تتعاهدان أنكما ستكملانها هذه المرة حتى النهاية. تبدأ بالقراءة، ثلاثون صفحة تمر بسلاسة. إنجاز. تلتفت إلى رفيقك، ذاك الثقيل الذي بلا اسم، تجده ساكنا، هادئًا. تبتسم له، إنك تبتسم لطفل هدأ أخيرا بعد نوبة بكاء طويلة.

تتجاوز الصفحة المئة. لم يحدث هذا منذ فترة. تضحك بصوت مرتفع، تضحك لأنك أخيرًا لست تقاوم. تقرأ أكثر، تكتشف، تلتقط أفكارًا، تخطط لمقال عن “الحب من منظور آخر”، ثم تخلطه بمقال آخر عن الجنس. تبرر لنفسك أن هذه الطريقة عبقرية في المزج بين الحسي والفكري.

تكتب ملاحظات في دفتر مهترئ، ترسم هياكل لمقالات مستقبلية، تقسم لنفسك أنك ستكتب غدا عن” القراءة الذكية”. تندهش من من انهماكك المفاجئ في عادة لم تعد يومية. تقول بصوتك: “الله الله”

ثم تصل إلى الصفحة الأخيرة من الرواية.

تغلق الكتاب.

تنتظر شيئًا ما يحدث.

لا شيء يحدث.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى