الغناء اليمني لم يكن صوتا عابرا.. بل هو حياة لا تشبه غيرها

صابر الجرادي:

ولأن الفن ليس ترفا، ولأن الروح لا تعرف السكون، ولأنها لا تقبل التكرار، فلا ترضى إلا بخلق جديد يتجاوز البارحة إلى غد أكثر بهاء.

هكذا كانت الأغنية اليمنية، وهكذا ظل الفن في أرض معبد الشمس والسفوح، لا يكتفي بأن يقول ما قيل، بل يبتكر ما لم يسمع، ويبعث في الناس ما يشبه الصلاة.

ففي حضرة وطبيعة الحياة والريف اليمني عند أيوب طارش وعبدالباسط عبسي، وصوت أبوبكر الذي تتنفس الروح بحنين يشبه اليمن، لحن وفي غزل الآنسي، وفي دفء وعتاب محمد سعد عبدالله، وفي رقص فيصل علوي الزرباوي، لا تجد صورة طبق الأصل، بل تفتح روحك على احتمالات لا نهائية للحن والدهشة.

الفنان هنا لا يرسم كما الطبيعة، بل كما كان يجب أن تكون الطبيعة لو كانت أكثر عدلًا وجمالًا.

الرسم لا يكتفي بالألوان، كما أن الغناء لا يكتفي بالنغم. وحده الفنان الذي يرى ما وراء العين، يسمع ما لم يقل، يخطو إلى ما لم يعش. بالفن لا ينقل الواقع، بل يعاد خلقه كما يليق به. صوت الفنان الذي يسكننا هو مرآتنا التي نطل منها على الكون لا كما هو، بل كما نشتهي أن يكون.

في الأغنية اليمنية، لا يعود اللحن مجرد صوت، بل هو نبض مدينة، ولهاث جبل، ونشاط مزارع، وحزن امرأة تنتظر عند النافذة كل ليلة، ومغترب يتشوق للعودة كل يوم.. لأن المغني لا يغني ليطربك، بل ليشعرك أنك ولدت من جديد، أنك واحد من تلك الحكايات التي لم تكتب بعد…

الفنان لا يرسم ملامحك بل يرسم ما خلفها. لا ينحت الجسد بل يبعث الروح. وكلما كان أكثر صدقا، كان أكثر بعدا عن عصره. ومع هذا، فإن عليه أن يغترف من روحه وعصره معا، من صوته ومن ألم أمته. لأن الفن الذي لا يشبه أرضه، لا يشبه شيئا.

من معرفة الفن حقا، يمكن القول إن الغناء اليمني لم يكن صوتا عابرا.. بل هو حياة. لا تشبه غيرها. حياة مشتهاة، متخيلة، وضرورية.. فالأغنية اليمنية هي طريق مختصر للخلود.. من مقام الصبا إلى مقام الروح، من لحن “ما علينا” إلى غصة “يا طبيب الهوى”، من “ارجع لحولك” إلى “يا ورد ما أحلى جمالك”، “عاد الهوى عاد” إلى “متيم بالهوى يروي”، كان الفنان اليمني يؤرخ لذاته ولنا، دون أن يدري.

وحده الفن الذي يخلق من فقر، من وجع، من نقص، يمتلك تلك المسحة المقدسة. ليس لأننا نمجد الألم، بل لأن النقص يفتح باب الاكتمال.. ولهذا لم تكن الأغنية اليمنية سوى اعتراف طويل بالحب، بالحياة، بالخذلان، وبالاحتمال.

كل لحن صادق هو حجر جديد في معمار الروح. وكل نغمة تأتي من الداخل تعادل مكتبة من الكلمات. الفنان حين يغني يكتب بالهواء. يبني بيوتا لا تراها الأعين، لكن تسكنها القلوب.

الغناء الذي لا يولد من علاقة حقيقية مع الأرض، يظل معلقا في الهواء. أما أغنية اليمن، فهي ضاربة في التراب. تأخذ من لهجة القرى، من بكاء المدن، من ضوء البحر، وبيالي البدو والصحارى، وتغزل بها ثوبا لا يشبه سواه. ولهذا، حين تسمع أيوب، فإنك تسمع ما لم يقل، وتبكي دون أن تعرف لماذا، وتشتاق للعودة للأرض، والطبيعة، و”الدردوش” حين يضم الحبايب.

الفنان حين يكون عظيما، لا يفتش عن الكمال، بل عن الصدق. لأنه يعرف أن الكمال مزيف، أما الصدق فهو الذي يخلد. هكذا ظل الفن اليمني، عاريا من الزيف، مكتفيا بحقيقته.

لا شيء يبقي الأغنية حيّة سوى تلك النية النقية التي خلقت منها. ولا شيء يخلد الفنان سوى موهبته في أن يعبر عن زمنه دون أن يرهن له. الفن حين يكون عظيما، يصير وثيقة لا تؤرشف الزمن فقط، بل ترتفع به.

كل أغنية يمنية عظيمة، هي سطر نقي في كتاب الروح. لا تحتاج إلى شرح، بل إلى قلب يعرف كيف يصغي.

الغناء اليمني علمنا الجمال كما يجب أن يدرس، لا كما يجب أن يحفظ. علمنا أن الصوت يمكن أن يصير وطنا.. إن اللحن يمكن أن يصير صلاة. والكلمة حين تقال بنبرة صادقة، تصبح قدرا لا يرد…

وها نحن، أبناء هذا الفن، لا نحمل الجمال في جيوبنا، بل في أصواتنا، في ذكرياتنا، في دموعنا التي نخبئها مع كل مطلع. نعرف أن الأغنية لا تموت، بل تنتظر من يعيد تلاوتها.

أغنية واحدة من فنان صادق، قد تفعل ما لا يفعله خطاب، أو حزب، أو إعلان، قد توقظ فينا ما حسبناه مات.

لهذا، فإنني أؤمن أن الفن، الذي لا يخلق من الحب، من الإيمان، من الجرح، من الأرض، من أيدينا المليئة بالغبار والقصائد، فلا يستحق أن يدعى فنا.. الفن الذي لا يغيرك، ليس لك. الأغنية التي لا تمسك بيدك في عتمتك، ليست أغنيتك.

لذلك أطلب من الحياة شيئا واحدا: أن أحتفظ بقدرتي على الإصغاء، لأن في الإصغاء يسكن الفن، وفي الفن يسكن الإنسان، وفي الإنسان يسكن الله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى