المعركة الأخيرة بين توثيق اللحظة ومعركة الذاكرة

د.أمين عبدالخالق العليمي/
في زمنٍ أصبح فيه الإعلام أداة لإعادة تشكيل الوعي، بثّت قناة “العربية الحدث” فيلماً وثائقياً بعنوان “المعركة الأخيرة”، يحكي اللحظات الأخيرة في حياة الرئيس اليمني الراحل الزعيم علي عبدالله صالح، ويعيد رسم مشهد النهاية كما لم يُروَ من قبل،
لكنّ هذا العمل، الذي طُرح بجرأة تقنية وإخراجية، لم يكن مجرد استعادة لحكاية قديمة، بل بدا كمن يلقي حجراً في بركة السياسة اليمنية الراكدة، فيثير الدوائر حتى أقصى الأطراف،
الفيلم كشف، بحسب شهادة مدين علي عبدالله صالح، أن والده لم يُقتل في منزله كما ظل شائعاً، بل قُتل في كمين مدبّر بقرية الجحشي، أثناء محاولته الخروج من صنعاء إلى سنحان، هذا التحول في الرواية، غيّر جوهر المشهد، وأعاد توجيه أصابع الأسئلة: من خطط؟ من خان؟ من سكت؟ ومن تخاذل؟
وما بين شهادات الحراسة، ورواية النجل، وعرض المعركة التي خاضها صالح في أيامه الأخيرة ضد جماعة الحوثي، بدا الفيلم وكأنه يعيد تقديم الرجل لا كزعيم انتهى، بل كـرمز سياسي يُستدعى من ذاكرة الأزمات ليُعاد توظيفه في معادلة الحاضر،
ردود الفعل لم تتأخر، بين من رأى في الوثائقي تصحيحاً للرواية الرسمية وإنصافاً لرجل واجه مصيره بشجاعة، ومن اعتبره تزييفاً للوقائع، وتلميعاً متأخراً لمرحلة انتهت بدماء وآلام،
اما الحوثيون صبّوا جام غضبهم على الفيلم، واعتبروه تحريضياً،
فيما رأى آخرون أن تغييب شخصيات اخري ايضاً، يطرح تساؤلات حول ماذا يريد التوثيق وماهدفه السياسي،
لكن الأهم من كل ذلك، هو التوقيت،
لماذا الآن؟
ولماذا بهذا الشكل؟
وهل يمكن اعتبار الفيلم مجرد عمل توثيقي بريء، أم أنه يحمِل رسائل مشفّرة في زمن تتشابك فيه التحالفات، وتُرسم فيه خرائط جديدة لمستقبل اليمن؟
الفيلم أعاد الحديث عن الرئيس الذي ظلّ مثار جدل في حياته وبعد رحيله، لكنه كذلك أعاد طرح سؤال خطير:
من يكتب التاريخ؟ هل يُكتب بالدم وحده؟ أم بالصوت الأعلى؟ أم بعدسات القنوات؟ وهل نترك ذاكرتنا رهينة من يملك أدوات التوثيق، في زمن تعيد فيه الكاميرا صياغة الوطن والرموز والسرديات؟
نحن بحاجة إلى مشروع وطني يوثّق تاريخ اليمن الحديث، لا بمنظور المنتصر أو المهزوم، او المؤيد او المُعارض بل بروح الباحث عن الحقيقة، نحتاج إلى لجنة من المؤرخين والمفكرين والنخب، تسجّل للناس ما جرى، لا ما يُراد أن يُقال لهم،
فالتاريخ أمانة، ومن يخونه يصنع أوهاماً، لا ذاكرة،
“المعركة الأخيرة” ليست نهاية سردية، بل بداية معركة أكبر معركة الوعي والتوثيق والحقيقة، ومن هنا، يجب أن لا نقف عند حدود الفيلم، بل نفتح باب الأسئلة، ونبني مشروع التدوين، لا التلقين، لأن الأوطان لا تعيش على الصمت، بل على الوعي، والحقيقة لا تُصنع إلا حين يكون الوطن أهم من الرواية، والناس أهم من اي سياسة، او افراد، والذاكرة يجب أن تكون أنقى من الحسابات .