المكاشفة والاستجابة.. حينما تصنعان لحظة تحول فارقة( نماذج تاريخية)

مكاشفة الشعوب ، التي لم تتعود على المكاشفة من قبل قياداتها ، تُعد عملية صعبة البداية ، وغالباً ما تصاحبها صدمات ، وأسئلة ، وردود أفعال متفاوته طابعها العام الاستنكار والتردد في استيعاب الحقيقة ، أو فهمها بمنطق عدم الثقة الذي تكرسه عهود من المراوغات التي تحلق حول الحقيقة ولا تكشفها للناس ، وهو ما يمكن تعريفه بالاستجابة .
المكاشفة ، صعبة بسبب بطء الاستجابة من قبل الشعوب ، لكنها ما إن تبدأ فإنها لا تلبث أن تفتح جسورًا بين عقل الحاكم الذي كان مغلقًا على نخبة الحكم فقط ، وبين عقل عموم الشعب الذي فقد الثقة في ما يقوله الحاكم وراح يبحث عن الحقيقة في الاشاعة .
تجارب الأمم كثيرة في هذه المسألة ، حيث كانت لحظات المكاشفة بمثابة لحظات تحول تاريخية في حياتها .
-عندما تولى تشرشل رئاسة الوزراء عام ١٩٤٠ ، كانت بريطانيا في وضع كارثي ، فألقى خطابًا تاريخيًا قال فيه ” لا أعدكم بشيء سوى الدم والتعب والدموع والعرق ” . ورغم قساوة الخطاب فقد التفت حوله الأمة البريطانية ، واعتبر صدقه وشجاعته عاملًا أساسيًا في رفع الروح المعنوية للشعب .
-في سنغافورة في الستينات من القرن الماضي، كان البلد فقيرًا ، وينقسم عرقيًا ، ولا يملك موارد . وفي خطاب شهير لرئيسه آنذاك “لي كوان يو” قال ” هذه لحظة مؤلمة ، لايوجد لدينا مخزون من الطعام إلا لأيام قليلة ، لكن علينا أن نبني مستقبلنا بأيدينا” . بعدها كسب ثقة الشعب ، وقاد سنغافورة نحو واحدة من أسرع التحولات الاقتصادية .
-فرانكلين روزفلت ، الرئيس الامريكي في الكساد الكبير عام ١٩٣٣ ، وكانت البلاد تغرق في الكساد العظيم ، قال في خطاب التنصيب ” الشيء الوحيد الذي يجب أن نخاف منه هو الخوف “. أثارت العبارة عاصفة من إدراك الأمة أنه لا خيار سوى إقتحام الصعب .
-نيلسون مانديلا رفض تغذية مشاعر الانتقام التي كانت تغلي عند المضطهَدين السود ، قاوم النزعة العارمة بالانتقام ، صارح الشعب بأن بناء الوطن يتطلب التسامح وليس الثأر والكراهية .
-امبراطور اليابان بعد الحرب العالمية الثانية ، كانت اليابان مهزومة ومدمرة بالكامل ، خرج الامبراطور يخاطب شعبه لأول مرة بصوته الحقيقي ( وكانوا يظنونه كائنًا مقدسًا لا يتكلم) .. أعلن الاستسلام ، وقال ” إن الحرب لم تَسِرْ كما كنا نتمنى ” ، احترم الناس جرأته ، وفتح الخطاب الباب لإعادة بناء اليابان .
-في ألمانيا ، صارح ويلي برانت مستشار المانيا شعبه في أكثر من مناسبة بأن بلاده لن تستطيع تجاهل مسئوليتها عما فعله النظام النازي ، أعاد هذا الموقف الثقة في ألمانيا كدولة حديثة تتصالح مع ماضيها .
-كوريا الجنوبية خاطب زعيمها كيم داي يونج الشعب أواخر التسعينات ” نحن في لحظة حرجة ، والحقيقة أن الدولة مفلسة”. لم يحبط الشعب ، لكنه حرك الديناميات النائمة والمعطلة فيه ، وحقق نهوضًا شاملًا .
-جمال عبد الناصر بعد نكسة ١٩٦٧ خاطب الشعب بعد اعترافه بالهزيمة ، وتحمل المسئولية كاملة ، وأدرك أن الخطاب الثوري الذي كان يوجهه للشعب قد خانته ادارة السلطة يومذاك ، وقال بشجاعة” لقد قررت التنحي تمامًا ونهائيًا عن أي منصب رسمي”. كان الاعتراف رغم قسوته دليلًا على تحمل المسئولية ، وولد تعاطفًا شعبيًا واسعًا كان له أثر كببر في استيعاب الهزيمة ، واستعادة عجلة البناء.
-ابو بكر الصديق رضي الله ، وفي أهم لحظة افتراق بين السماء وإدارة شئون الأرض حينما بلغ الناس وفاة النبي (صلعم) ، وما أصابهم من هلع وحيرة وتردد ، خطب في الناس قائلًا ” من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت “. كان لهذه العبارة وقع عظيم عند الناس أعادتهم إلى رشدهم وتوازنهم في أهم لحظات الانكسار .
وهناك أمثلة كثيرة غيرها من التاريخ السياسي للمكاشفة ، وكيف أنها تحولت إلى قوة لاستعادة المبادرة وتحقيق الانتصارات .
ووفقًا لما تقوله الوقائع فإن الشعوب التي لم تتعود المكاشفة من قادتها تحتاج إلى وقت طويل لتستجيب لها حين تأتي ، وتنخرط ، من ثم ، في عملية إعادة بناء العلاقة بين الخطاب السياسي وحراك الواقع .
على اليمنيين أن يشجعوا خطاب المكاشفة مهما كان قاسيًا ، ويسبروا غور مضامينه لمعرفة ما يحيط بمعركتهم من مخاطر وما تتطلبه من مواقف ، لا من تضحيات فقط .
ذلك هو الطريق الذي سلكته الشعوب والأمم لخلق لحظة التحول التاريخية .