الميت العشرون

د. مصطفى ناجي:
لديّ صديق، لعلّه واحد من أولئك القلائل الذين لا يملكون حساباً على أيٍّ من وسائل التواصل الاجتماعي، ولا سيما «فيسبوك».
وبيننا أمور مشتركة نُدحرجها أمامنا ككرة الثلج منذ ما يزيد على سبعةٍ وعشرين عاماً منذ أن إلتقينا أول مرة في صنعاء في نهار صنعائي بارد عند بوفية الحمادي في كلية الاداب في جامعة صنعاء: أصدقاء مشتركون، ذكريات مشتركة، اهتمامات مشتركة، صُدَف مشتركة، أسفار مشتركة، دراسات مشتركة، ومع ذلك… كنتُ أنا، بحُكم حضوري على «فيسبوك»، حلقة وصلٍ له بما يظهر في اليمن تحديداً. وبهذا كنت أنقل إليه أشياء جديدة عن أصدقاء مشتركين انقطعت الصلة بهم لسنوات، لكنّي – للأسف – كنت أيضاً أحمل إليه أخبار الذين يموتون أو يُقتلون.
يكون حوارنا كالتالي:
– ألو، كيف الأخبار؟ كيف الحال؟
– ألو، كل شيء تمام عدا خبر مزعج… هل تتذكر فلاناً؟
– طبعاً، فلان! يا الله ما أطيبه وما أجمله!
ثم تتقافز الذكريات في سماعة الهاتف
- للأسف، علمتُ بخبر وفاته (أو مقتله أو سجنه) قبل أيام.
وهكذا يخيم حزن وصمت على مكالمتنا.
اليوم رأيتُ صورة لصديق، وقرأتُ نعوات الناس عليه. صديقٌ يرثي صديقاً آخر.
ترددتُ كثيراً قبل أن أبلّغ صديقي اللامتصل بهذا العالم الأزرق بالخبر الحزين.
تتردّدي لأنني قمتُ بحساب عدد المرات التي سبق لي أن نقلتُ إليه فيها وفاة أحدهم، ووجدتُ أن اليوم هو الشخص العشرون المشترك بيننا الذي يرحل. لم أكن أتصوّر يوماً أنني سأكون ناقلَ أخبار الموتى، ولا أن الموت سيكون بهذه الوفرة وهذه الوحشية في حصاد الأصدقاء، واحداً تلو الآخر.
منذ عامٍ تقريباً، قررتُ ألّا أنقل إليه الخبر طازجاً كما كان؛ صرتُ آخذ أيّاماً، وربما أسابيع، حتى أجد فرصة مناسبة— أقول مناسبة—لأخفّف الصدمة حين أخبره.
كأن تقادم خبر الوفاة قد يجعل وقعه أخفّ، رغم أن الموت موت، وأنه يحصد الأصدقاء في تلك البلاد بلا رحمة: (وباء، حميات، خطأ طبي، رصاصة طائشة، عراك على أملاك، إطلاق نار في عرس، رصاصة مرتدة، قصف طيران، انفجار محطة وقود، قتل في الجبهة، حادث سير، غرق في البحر، موت على الخديوي، موت في السجن، موت غامض، انفجار لغم، عبوة ناسفة، موت في صحراء الهجرة إلى أوروبا…)
لقد سئمتُ نقل الأخبار السيئة، ولم يسأم الموت من جهوزيته الدائمة.




