تعز بعيون غريب

معاذ مدهش: تعز بعيون غريب
لم أكن أعرف ما الذي ينتظرني عندما وصلت إلى مدينة تعز اليمنية لأول مرة. بدت المدينة عادية، بشوارعها المزدحمة وأسواقها المكتظة، ولكن شيئًا مختلفًا بدأ يتسلل إلى حواسي، كأنها إشارة غير مرئية تخبرني أن هناك سرًا لا يزال مختبئًا بين أركانها.
كان أول ما لفت انتباهي ذلك الصوت العذب الذي كان ينساب من مكبر الصوت الصغير على زاوية الدراجة الهوائية لبائع الآيسكريم، رحب بي بابتسامة ودودة، لكنني لم أكن أركز على الترحيب، بل أخذني الصوت
“لا تضيع لحظة وحدة.”
ابتسم الرجل وكأنه قرأ استغرابي وهمس بصوت لم يقله، لكنني تكهنته
“أهلاً بك في تعز”عدت من عنده متسائلًا عن هذا الصوت المتناغم مع حركات البائع النشطة، حتى خلت أنه قدم لي أغنية وعلامة استفهام بدلًا من الآيسكريم.
على الرصيف غير البعيد، وقفت أمام بائع خضار، إذ جذبني نفس الصوت بأغنية أخرى:
“لمن تضوي يا صباح بالنور”
كان اللحن مختلفًا لكنه مألوف، حنونًا كأن صاحبه يعرفك منذ زمن.
في الباص أيضًا، كان الركاب صامتين، بينما صوت السائق كان يرافق هذا الصمت، يردد بصوت عالٍ بعد الأغنية
“يا حب خالطتك بإيماني”
التفت نحو السائق وسألته، ما هذا الصوت في كل مكان؟ ضحك وقال دون أن يلتفت:
“مش تعز بدونه”
المدينة بأكملها تغني، في كل زاوية، في كل شارع، حتى عندما دخلت إلى الفندق ليلاً، كان كمبيوتر الاستقبال يملأ الصمت بأغنية حزينة
“فلربما عاد الهوى وأعادك الله المعيد”
وقفت هناك طويلًا، أحاول أن أفهم هذا الانسجام. نسيت الملحوظات التي أردت قولها بشأن رداءة الإنترنت وانقطاع الماء. كل ما أردت أن أفهمه لحظتها: كيف يمكن لصوت واحد أن يكون هوية سمعية لمدينة بأكملها؟
في الصباح، استيقظت على لحن حماسي لا يختفي حتى يعود من جديد. صوت جهوري ينادي الطلاب المتأخرين، بالكاد أستوضح ما يقول. وصوت حانٍ وحازم وواضح في آن، كما لو أن مكبر الصوت يرفض سواه
“سل النجوم التي كنا نساريها”
خرجت فورًا، لا لأسأل النجوم استجابة للأغنية، ولا من أجل مهمتي التي جئت من أجلها، بل بحثًا عما هو أغرب: عن لازمة سمعية بدت تثير مخاوفي، أصبحت شأنًا خاصًا.
“صباحك يا صبايا حوض الأشراف صباح “أهيف” نهب قلبي تحلاَّف”
لم تخط قدمي خارج كافتيريا الفندق حتى داهمني الصوت بلحن مغاير يشبه الصباح. هذه المرة تسرب من التلفاز، من القناة الرسمية.
ألقيت تساؤلاتي التي لم تكفها إجابات الإنترنت: من صاحب هذا الصوت؟ كيف؟ ولماذا؟
ابتسموا كمن يسمع سؤال غريب:
“إنه صوتنا، هو أيوب طارش. نحن لا نسمعه فقط، نحن نعيش به. ليس فنانًا، إنه ذاكرة، وتاريخ، إنه نحن”
لحظتها، فهمت. تعز ليست مدينة، إنها أغنية، قرية ثكلى، وأيوب هو من يعطيها الحياة.