‏تنهيدتان.. ووجع الدولة

د. محمد الحميدي :

‏قبل أيام قليلة، وفي جلسة هادئة، دار حديث مع أحد الوزراء الذين يؤدون واجباتهم كسائر البقية، رغم مبرراته المتواصلة التي لا تنفد. ينتمي إلى تلك الزمرة الرفاقية الأقل عظمة مقارنة بآخرين يحظون بمودة نضير صدقهم وكفاءاتهم، لكنه وللأمانة الأطيب قلباً بينهم، رغم محيطه من رفاق السوء. يعرف طبيعة الوباء ويعي الداء والدواء، ومع ذلك وقع أسيراً لما يحيط به، وهو يدرك تماماً حدود صبره الشخصي.

‏ تحدث وهو يعيش حالة الإلهام وعظمة صبره. تحدث عن تأخر الرواتب والبدلات وعن التزامات أثقلت كاهله حتى أثرت على مهامه، ثم ختم كلامه بتنهيدة عميقة حملت ما عجزت الكلمات عن حمله، غارقاً في عالمه الخاص.

‏ أعادت تلك التنهيدة إلى ذاكرتي تنهيدة أم صديقي لؤي، تلك التي أسمعها كلما اتصلت بها للاطمئنان، لؤي الذي كان يشبه كبرياء تعز في شموخه لم يعد بيننا الآن، سقط شهيداً في معركة تعز عند بداية الاجتياح البربري الغاشم لسفهاء العصر، وأمه حتى الآن تستعيده بالكلام والذكرى والدموع وتنهداتها سجلات وجع لا تنتهي.

‏ حينها تبين لي أن بين التنهيدين مسافة تشرح حال الدولة دون الحاجة لضجيج المنابر أو التقارير الأممية، فالأولى تنبعث من مكتب مثقل بالأوراق والملفات عديمة الفائدة، والثانية تنبعث من صدر مثقل بالفقدان الأبدي، أحدهما ينتظر مستحقاته المالية والآخر ينتظر عدالة تعادل الدم بالكرامة.

‏ سألت نفسي المتعبة من زحمة التفكير، كيف لبلد أن يوازن بين وجعين بهذا التفاوت، بين دولة أنهكتها الحسابات اليومية ومجتمع أثقلته التضحيات الجسام، بين من ينتظر الراتب المتأخر ومن ينتظر عودة ذلك الوطن المسلوب، حتى تحت سقف البيت الواحد فقد ترتيب أولوياته، يجزع لتأخر المصروف وينسى أسماء شهدائه الذين سقوه بدمائهم.

‏ تنهيدة الوزير صادقة لكنها ليست الوحيدة، في هذا البلد الذي تنهد الجميع، المسؤول والمواطن، الشهيد والأم، وحتى الأرض التي تئن تحت أقدام المتحاربين في سبيل الحق ونقيضه. غير أن الفارق يكمن فيمن يتقن تحمل نصيبه من الألم دون أن يتنازل عن نصيب الوطن منه.

‏ أيها الإخوة رفاق النضال الوطني المشترك، والله أن ما يعانيه اليمن اليوم يتجاوز حدود تأخر الراتب أو شح الموارد، فلب الأزمة يكمن في غياب الدولة عن أداء واجباتها الأساسية، إذ لم تعد المشكلة مجرد مالية، ولكن أصبحت أخلاقية وإدارية بالأساس، حيث ضاق صدر السلطة بمطالب الشعب واتسع صمتها أمام ما يهدد كيان الوطن وكرامته، وكما تعلمون أن أي نهوض للدولة من كبوتها مرتبط بعودة الشعور بالمسؤولية وأن يصبح القرار العام مرآة لآلام الناس لا لوساوس الكراسي.

‏ حين أدرك معاليه أنني لم أعد معه وابتعدت برفقة ذاكرتي المحملة بوجع لا يهدأ، عاد بي بنظرة مستقيمة متعثرة، فقلت له وبابتسامة تشبه المآذن الباكية: يا معالي الوزير لقد أصبح الهم عظيم والجميع يعاني، حتى صنعاء تموت حسرة الصبر والانتظار.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى