حين تُحب الحبشة اليمن.. عناق القِدم بين أديس أبابا وصنعاء

في أديس أبابا، عاصمة الحبشة القديمة، لا يُستقبل العربي إلا بترحاب دافئ من أبناء الأرض الذين لا يخطئون الملامح. “أهلاً وسهلاً حبيبي”، يقولونها لكل عربي، ولكن حين يعرفون أنك يمني، يضيفون بحفاوة صادقة: “أهلا وسهلا حبيبي بركا”. و”بركا” ليست مجرد كلمة، بل معناها في اللغة الأمهرية هو “البركة”، وكأنهم يرون في اليمني بركةً تمشي على الأرض، ويعانقون فيه عمق التاريخ ووشائج المحبة التي لا تندثر.
على إن هذا الترحاب ليس وليد اللحظة، بل هو استدعاء لذاكرة ضاربة في الجذور. ذاكرة تربط بين يمنت وحبشت منذ آلاف السنين، منذ كانت مأرب تكتب حروف المجد في المسند، وكانت مملكة أكسوم تتكئ على ظلالها لتكبر وتتوسع.
لذلك ليس غريبا أن تحمل النقوش الأثرية في المرتفعات الحبشية كتابات بخط المسند اليمني، دليلا حيا على الوجود الحضاري والتجاري والثقافي اليمني في عمق إفريقيا.
نعم: كان اليمنيون أوائل من عبروا البحر الأحمر، لا غزاة، بل تجار حضارة ومبشري معرفة. حملوا البن معهم، والعسل، واللبان، والبخور، والقات، والموسيقى، وحتى الحنين، فأضاءوا أسواق أكسوم وغندار وأديس، كما أضاءوا قلوب أهلها.
وما زالت رائحة القات تُستهلك في بعض مناطق إثيوبيا إلى اليوم، لا كمادة للتسلية فحسب، بل كطقس اجتماعي يعيد الذاكرة إلى يمنٍ غامر بالعطاء.
ولعلّ أصدق ما يُعبر عن هذا العناق الروحي هو تلك العبارة التي تتردد هناك: “حبشت يمنت”، وكأن الحبشة تاقت لأن تتمثل باليمن، أو لعلها أرادت أن تبوح بفضل اليمني عليها، منذ أن علمها الكتابة، وزودها بالبن الذي صار لاحقا هويتها الاقتصادية، وأهداها مفردات الحضارة الأولى.
في المقابل، لم تنسى اليمن فضل الحبشة حين ضاقت بها الأحوال، فكانت أديس أبابا حضنا دافئا للآلاف من اللاجئين اليمنيين الهاربين من ويلات الحرب. امتزجت الدماء مجددا، وتوالدت الأسر، وتشكلت أجيال من أبناء الحبيبتين، يحملون العروبة والبخور في رئاتهم، والأمهرية في ألسنتهم.
بمعنى أدق فإن ليس اليمني في أديس أبابا غريبا، بل هو كما يقولون: “بركا” — نبي الأرض الأولى، القادم من بلاد البُن والكتابة. وبين “المسند” و”الهيروغليف الحبشي”، وبين القات والجات، وبين عدن وأديس، ظل الحب متبادلا، غير قابل للانطفاء.
فكلما قالت حبشة “بركا”، رد اليمني: “حبشت يمنت”، فيا له من عشقٍ لا يشيخ.