دمت… مدينة البخار الذي أُهين!

أول أمس الأربعاء، طرق بابي ممزوجة بإلحاحٍ لا يُحتمل من بعض الرفاق والأصدقاء الذين ألحّوا عليّ أن أنضم إليهم في رحلةٍ إلى مدينة دمت. حاولت الممانعة، لكنهم لبّسوني الحنين لبوسًا جميلاً، وزينوا لي الفكرة بورود التغيير وتجديد الروح، وأقسموا أنهم حجزوا لنا في فندق “العودي”، وكأننا على موعدٍ مع الدهشة.
ولأني أحب أن أتنفس الحياة خارج زحام المرافعات، ولأني منذ أكثر من ثلاثة عشر عامًا لم أزر دمت، تلك المدينة التي طالما اشتهرت بمياهها الحارّة العلاجية، وافقت… ويا ليتني لم أوافق!
ما إن دلفنا تخوم المدينة حتى استقبلتنا حرارة تكاد تذيب الضمير، ورياح كأنها زفرات الغضب، وغبارٌ كأنّه نفض الموت على وجه الحياة. أين الجمال؟! أين الهواء الطلق؟! وأين تلك الصورة التي رسمتها الذاكرة ذات يوم عن دمت؟!
وصلنا إلى ما يُسمّى زورًا بـ”حمامات العودي الطبيعية البخارية”. لمّا اقتربنا من المبنى، لم تصافحنا رائحة الكبريت المميزة كما عهدنا، بل ضربتنا رائحة المجاري الكريهة كصفعةٍ على وجه الكرامة. كانت مجاري الصرف الصحي تجري علنًا بجوار المبنى، وكأنها تعلن انتصار الفساد على الذوق العام.
قلت لرفاقي: “هيا، لندخل ونرتاح ساعتين، ثم نتحمم… طالما أننا قد أتينا، فمصيرنا أن نكمل. تعبنا، وخسرنا، فلتكن الخسارة كاملة!”
دخلنا فوجدنا كارثة تبتسم، مبنىً بلا روح، ديكور يتيماً، وأجنحة أشبه بغرف مهجورة من نُزلٍ قديم. ومع ذلك، كانوا يطلبون أربعين ألف ريال لليلة الواحدة! أربعون ألفًا لمكان لا يستحق خمسة عشر ألفًا! إنها ليست سياحة… إنها سرقة مغلّفة بالضيافة.
هنا توقفت وتأملت:
أين نحن؟ من نحن؟ وكيف وصلنا إلى هذا الحد من اللامبالاة؟
نحن في مجتمع لا يعرف معنى المنافسة، لا يحترم السائح، ولا يملك الحد الأدنى من معايير الكرامة السياحية. ندفع الأموال في أماكن لا تملك من الجمال شيئًا، ونصفّق لتجارب لا تليق حتى بذاكرة عابرة.
دمت اليوم ليست دمت الأمس.
ما كان يومًا يُغنّى له في دواوين الشعر والعلاج، أصبح اليوم مهزلة تُروى في مجالس السخرية. حماماتها لم تعد تصلح للاستخدام البشري، فضلًا عن أن توصف بـ”السياحية”.
وأقولها بلسان القانون والضمير معًا:
دمت بحاجة إلى مستثمر شجاع، رجل يملك الحلم، وضمير الوطن، ليبعث من تحت الرماد مشروعًا سياحيًا حقيقيًا يعيد للمدينة هيبتها وماء وجهها.
وإلى حين يأتي هذا المستثمر، تبقى دمت اليوم درسًا في كيف يدفن الجمال حين يتقاعس المسؤول، وحين تتغلب الفوضى على النظام، والربح السريع على التنمية المستدامة.
ختامًا:
ليست هذه مجرد شكوى…
بل صرخةُ عاشقٍ أُهين ذوقه، وصرخة قانوني يرى كيف تُهان السياحة وتُذبح التنمية على أعتاب الإهمال واللامسؤولية.
وللحديث بقية…
المحامي
سنان منصر بيرق