شعر الناس وشعر النخبة (أيهما أقرب إلى روح العصر؟)

بالرغم من التنوع الكبير في الأشكال الشعرية، والتجارب الإبداعية التي نشهدها اليوم، وبالرغم من مساحة الحرية التي تتيح لكل شاعر أن يعبر بلغته وأدواته، إلا أن هذا التنوع، بكل إيجابياته، كشف لنا أيضًا عن فجوة عميقة بين ما نسميه “شعر الناس” (العامّي) وما نسميه “شعر النخبة”(الفصيح). فجوة لم تخلقها اللغة وحدها، بل صنعها أيضًا اختلاف النظرة إلى الشعر، وإلى وظيفة الكلمة، وإلى روح العصر ذاتها.
شعر الناس، ببساطته، وعفويته، وارتباطه بهمهم اليوميّ، يبدو كأنه قريب من قلب الشارع وروحه، يلتقط أنفاس الناس كما هي، يقول ما يريدون قوله ولا يجدون له مفردات. بينما يقف شعر النخبة في مكانٍ آخر، منصرفًا نحو التجريب، والنحت في اللغة، والاشتغال على الرموز والتأويلات العميقة، حتى ليظن القارئ أحيانًا أن الشعر هناك قد انفصل عن الواقع تمامًا.
لكن، هل يعني هذا أن شعر الناس وحده هو الأقرب إلى روح العصر؟ ليس الأمر بهذه البساطة. لأن روح العصر ليست فقط في هموم الخبز والماء، بل هي أيضًا في القلق الفكري، والبحث عن المعنى، وفي الأسئلة الكبرى التي ربما لا يلتفت لها “الناس” بقدر
ما يجتهد في اقتفائها شعر النخبة.
شعر الناس هو صوت السهول الممتدة، صوت الأرصفة المكتظّة، صوت الأيادي المتعبة، والعيون الساهرة، لكنه أحيانًا يغفل عن عمق السؤال ويكتفي بسطح الحكاية. أما شعر النخبة، فهو الصعود إلى الجبال البعيدة، والبحث عن ينابيع المعاني في كهوف اللغة، لكنه أحيانًا يتوه في غموضه، ويترك القارئ ضائعًا على عتباته.
لا أقلّل هنا من أي منهما، فكما أن الجسد يحتاج إلى الخبز والماء (وهذا ما يمنحه الشعر العامي)، فهو يحتاج أيضًا إلى الفكر والخيال والجمال الخفي (وهذا ما يمنحه الشعر الفصيح). الخطأ أن نميل إلى أحدهما إلغاءً للآخر. أن نعتقد أن أحدهما وحده قادر على التعبير عن روح العصر بكاملها.
روح العصر أوسع من أن تختزل في شارعٍ فقط، أو في برجٍ عاجي فقط. هي مزيج من الاثنين. تحتاج أن تقول ما يفهمه الناس مباشرة، وتحتاج في الوقت نفسه إلى من يعلّمهم كيف يرون ما لا يرونه في العادة.
إن إلغاء أي من اللونين يخلق شعورًا بالنقصان. حين نصغي فقط لشعر الناس، قد نشعر بالارتواء اللّحظي لكنه لا يكفي للسفر العميق في ذواتنا. وحين نصغي فقط لشعر النخبة، قد نرتقي بالحلم لكننا نظل جائعين إلى دفء الواقع.
لذلك، لا بد أن نبحث عن الشعر الذي يجمع بين الدفء والعلوّ، بين لغة الناس وأحلام النخبة، بين ما يزرع الحقول وما يفتح لنا أبواب السماء. عندها فقط، يمكن أن نقول إن الشعر كله، بكل ألوانه، قد صار أقرب إلى روح العصر.