قتل الحمدي… قتل الدولة

حمود خالد الصوفي :
اليوم هو الحادي عشر من اكتوبر
لاتنسوا هذا التاريخ ابداً…يبرز كل عام علامة اخفاق موجعة ، فيعيد ترتيب الذاكرة ويوقظ ما ظنّ البعض أنه قد غفا.
إنه إبراهيم الحمدي.. النبيّ بلا رسالة، والقائد بلا جندٍ من الطغيان،
الحمدي ..الإنسان الذي عاش نظيفًا ورحل نقيًّا، فصار رمزاً خالداً في وجدان أمةٍ أنهكتها الخيبات.
حين نذكره، لا نذكر رئيسًا جلس على كرسي الحكم، بل نذكر روحًا حملت مشروع وطن.
كان استثناءً عظيمًا في تاريخ طويلٍ متخمٍ بالخذلان.
اقترب من الناس حتى صار واحدًا منهم، حمل وجوه البسطاء في قلبه، وسمع أنين المعذبين في ليله ونهاره.
كان يمشي بلا حراس، يجلس بلا عرش، ويعلو بلا كبرياء.
كأنما كان أبًا وأخًا وصديقًا في هيئة قائد، وكأنما أراد أن يقول إن الزعامة هي أن تكون قلبًا للناس قبل أن تكون عقلًا للسلطة.
في ثلاث سنوات قصيرة، صنع الحمدي ما يُخيَّلُ للمرء أنه صُنع في عقود:
ثلاث سنوات من حكمه القصير، كانت بمثابة قرن من العدالة والنزاهة والكرامة.
اقترب من الناس، عاش بينهم، تقاسم معهم الهموم والأحلام.
لم يجعل بينه وبين المواطن حاجزاً، فكان الحارس يرهقه و لا يتمكن من اللحاق به ، و البسطاء يلتقونه في الشوارع، و كل جندي يشعر أنه يعرفه عن قرب.
في ثلاث سنوات فقط
بنى مؤسسات، أرسى مبدأ المواطنة، حارب الفساد، أعاد للدولة هيبتها، رفع القانون فوق المذهب والسلالة فوق القبيلة والمشيخة و مراكز القوى، وأذلّ تخلفاً عمره مئات السنين.
نزاهته صارت حكاية؛
الهدايا التي أهداها له زعماء الخارج، أعادها إلى خزينة الدولة، وكأنما أراد أن يقول: «ما أُعطي لي، إنما هو حق لليمن».
لقد أراد أن ينقل اليمن إلى مصاف الدول، فشقّ الطرقات، مدّ الكهرباء، أوصل الماء إلى القرى والنجوع، وفتح أبواب الدولة أمام الفقراء، كأنما يزرع فيهم اليقين بأن هذه الأرض تستحق حياة أفضل.
ولهذا، أحبه الناس كما لم يحبوا زعيمًا من قبل.
كان الإجماع على محبته إجماعًا نادرًا، جمع البسطاء والنخب، الشيوخ والشباب، الجنود والمثقفين وحتى زعماء العالم….
أتذكر ما قاله الشيخ زايد بن سلطان رحمه الله وكنا وفداً طلابياً زار الإمارات بناءً على دعوة منه عقب زيارته اليمن ومنها محافظة تعز ، ولما رأى العرض الشبابي لإستقباله في ميدان الشهداء طلب من الحمدي ارسال وفداً من الشباب إلى الإمارات فكنتُ واحداً من عشرة طلاب من تعز ومثليهم من صنعاء والحديدة، ولما استقبلنا الشيخ زايد أثنى على الحمدي ثم قال (( الحمدي هبةٌ من الله فحافظوا عليه )).
وحين استشهد ، بكته القلوب قبل العيون…ترمد الحزن على الوهاد و الغيوم و آفاق المدى و صار الوجع بلاداً..
لحظة شاحبة اكتظت بالسواد ، بيان النعي في نشرات الاخبار هزيلاً مرقعاً يحكي واقعة الخيانة بلا كلمات و لا اسماء..
اتذكر فيها وجوه أصدقائي دامعة و نحيبهم يعانق السماء
عبدالملك المخلافي، عبدالله نعمان ، أمين قاسم ، كامل مغلس و مفيد عبده سيف و صاحب المطعم في الباب الكبير (مرجان) الذي كاد يشق ثيابة من هول ماحدث
الناس كانت مكلومة كأن خنجراً اُغمد في خاصرتهم ..
حديثهم شاااخ و أحلامهم تكسرت و أرجلهم لم تقوى على الوقوف..
للأسف كل ضوء عظيم يستفز الظلام.
ولأن إبراهيم كان ضوءًا نادرًا، تكالبت عليه عتمات الطمع والفساد والخيانة.
حاكوا له المؤامرات، نصبوا له الكمائن، حتى ساقوه إلى وليمة غادرة في بيتٍ ظنه بيت الأمان…
بيت نائبه، و أقرب الناس اليه..
في خيانة سوداء لم تُمحَ من ذاكرة اليمنيين.. هناك، أسدل الغدر ستارته، سقط القائد الذي كان أمةً ، ومعه أخوه الشهيد عبدالله الحمدي والقائد علي قناف زهرة.
كأن التاريخ أبى أن يترك اليمن طويلًا في حضن عدالةٍ حقيقية، فانتزعها بغدرٍ أسود ما زال جرحه ينزف حتى اليوم.
ثمانٍ وأربعون سنة مرّت، وما زال اليمنيون يفتشون عن صورته في وجوه حكّامهم، وما زالت الأجيال تتوارث الحكاية: «كان هنا رجلٌ اسمه إبراهيم الحمدي».
وما زال اليمن، كلما تاهت به الطرق، يعود إلى ذكراه كمن يعود إلى بوصلة ضائعة.
أيها المتصدّرون للمشهد اليوم:
تعلموا من الحمدي أن الحكم ليس سطوة، بل مسؤولية.
تعلموا أن الناس لا يحبون بالكلام، بل بالفعل.
تعلموا أن الزعامة لا تُشترى بالرصاص ولا تُفرض بالقوة، بل تُنتزع بالمحبة والعدل والنزاهة.
اقتدوا به، ليس لأنه ماضٍ جميل، بل لأنه حاضرٌ لم يبرح قلوبنا، ومستقبلٌ نتمنى أن نصحو عليه ذات يوم.
حين رحل الحمدي، كأنما كتب بدمه:
أن اليمن تستحق أن تكون دولة، وأن أبناءها يستحقون أن يكونوا مواطنين لا رعايا.
حين رحل، أورثنا الحلم، وأورثكم أنتم
– يا من تحكمون – امتحانًا عسيرًا: هل تستطيعون أن تقتربوا من صورته ولو بخطوة؟
هل من يجرؤ اليوم أن يمد يده إلى هذا الحلم ويعيد للبلاد بعضًا من نورها؟
أيها المتصدّرون لمشهد اليمن اليوم:
تعلموا أن الزعامة ليست لقبًا، بل أمانة.
وأن الدولة ليست غنيمة، بل مسؤولية.
وأن القلوب لا تُفتح بالسلطة، بل بالصدق والعدل.
رحل إبراهيم الحمدي، و في غيابه اشفقنا على أنفسنا و أيقنا
أن اليمن تستحق حياة كريمة، وأن الناس يستحقون حاكمًا يكون واحدًا منهم.
سلامٌ على روحه في ذكراه الثامنة والأربعين.
سلامٌ على الحلم الذي لم يمت.
سلامٌ على اليمن، إن وجدت في نفسها القدرة أن تُنجب يومًا قادة يشبهون ابراهيم الحمدي .