قيامة ميلانو … صراع المردة بين جحيم الأفاعي

كتب/ خطاب ناصر
في ميلانو… كُتبت هذا المساء سورةٌ جديدةٌ في إنجيل الكرة، كأن الموقعة لم تكن مجرد إيابٍ لنصف نهائي، بل قيامة كروية أُقيمت على أنقاض المنطق وعلى عظام التعب.
فاز النييراوزي بأربعة أهداف لثلاثة بعد أشواط إضافية، لكنه لم ينتصر بالمعنى الرياضي البسيط، بل استخرج المجد من بين أنياب البركان، وسقى جماهيره خمراً من عرقٍ ودمٍ وصراخ.
في جحيم السان سيرو، لم يكن هناك جمهور، بل جيش من المؤمنين، يكتبون الصلوات على جدران الملعب، يهتفون ليس فقط للنصر، بل للخلاص من لعبة باتت أكبر من مجرد كرة. كانت المباراة ملحمة ذات سبعة رؤوس، كل شوط فيها كان فصلٌ من فانتازيا دموية.
الطليان دخلوا اللقاء كمن يستدعي الأرواح، كأنهم يعرفون أن الحالمين الكتالونيين لن يأتوا ليلعبوا، بل ليغزوا. وفعلاً جاء الكتالونيون كالطوفان، بقيادة العراب الألماني هانز فليك، ذاك الرجل الذي لا يدرب، بل يتنبأ، يسرق لحظات من المستقبل ويسكبها في الحاضر..
لكن إنزاغي، رجل البرودة الماكرة، لم يُرِد للإنتر أن يكون ضحية لجمال الآخرين. حرّك جيوشه كما يُحرّك شاعر أبياته. أطلق مرتداته كسهام نازفة، وزرع رجاله في أعماق دفاعات برشلونة كخلايا نائمة تستيقظ مع كل زلزال.
برشلونة وإنتر ميلان؟ لا. كان هذا لقاء بين الحلم والاحتمال، بين فيلكوينيّ قادم من التيكي تاكا، وإنزاغيانيّ يكتب بالحديد والنار.
برشلونة حاول أن يُغني مجده، لكن صوته انكسر في الدقيقة المئة والعشرين. الدفاع الكتالوني، كالعادة، حمل الماء في يده وظن أنه سيصل النهر. خطوطهم تهاوت، كأنهم يلعبون بلا خلفية، كأن المسافة بين كل لاعب وزميله هي حفرة في الذاكرة.
راوحت المباراة بين الفرح والفزع، بين التصفيق والدمع، بين صعود كاذب وهبوط حقيقي. فليك أدرك متأخراً أن الجمال وحده لا يحمي المرمى، وأن التيكي تاكا قد تكون نشيداً رائعاً، لكنه لا يُسمع في المعارك الأخيرة.
وإنتر؟ لم يكن يلعب فقط. كان يقاوم، يعضّ، يلعق جراحه ثم يركض مجدداً. كل دقيقة كانت خيانة مؤجلة، كل هجمة مرتدة كانت خطاباً من الواقعية إلى الأحلام: “إما أن تنزلوا إلى الأرض، أو نمحوكم من السماء.”
أربعة أهداف سجّلها الإنتر، كأنها أربعة أطواق نجاة وسط بحرٍ من الهجوم الكتالوني. وبرشلونة؟ سجّلوا ثلاثة، لكنهم خسروا ما هو أكبر من النتيجة: خسروا وهم يعرفون أنهم كانوا الأجمل… والأضعف.
لم يربح التكتيك فقط، ولا الجمال فقط، بل ربحت الحرب قدريّتها، وانتصر المنطق الأسود على الشعر الأزرق. وخرج فليك منكسراً، يحمل في يده دفتراً مبلولاً بخيبة، بينما إنزاغي رفع رأسه لا كبطل، بل كناجي.
انتهت الملحمة… لكن بالنسبة لي كرة القدم تغيّرت الليلة. لم تعد مجرد رياضة، بل دينٌ جديد، كُتب في ميلانو، وسجدت له أوروبا كلها.
ختاماً، لم يكن ما حدث في ميلانو مجرد هزيمة لبروجيكت برشلونة، بل كان درساً في معنى الجمال الذي لا يحمي المرمى، في عمق الحلم الذي لا يكتمل إلا عندما يُسند بالقوة. برشلونة ذاك الفريق الذي ملأ سماوات المستديرة بفنه، اكتشف أن الأرض كانت أشد واقعية من أن تُختطف بالخيال.