كيف ضاعت الروح؟!

همدان الحقب :
جسدي في حيرة… كأنني فقدت روحي التي كانت تسكنني، تلك الروح التي كانت مستنيرة بالأدب والفلسفة، ترفرف بجناحيها في سماء الفكر والثقافة. أبحث عنها في أعماقي، في زوايا قلبي المظلمة، ولكنها أصبحت كالشبح الذي يختبئ في عتمة الأيام، لا أستطيع الإمساك بها. وكأن الزمن قد سحب منها سحرها، وألقى بي في بحورٍ من الضياع لا شاطئ لها.
لقد مررت بأحداثٍ صعبة، أقوى من أن تحتملها روح هشة مثل روحي. ثورة الحادي عشر من فبراير في اليمن، كان وقعها في قلبي كالزلزال. كانت لحظة حلم ووعي، لحظة كان الوطن فيها يصرخ من أجل الحرية، كنتُ هناك، في قلب الشارع، أصرخ مع الجميع. كانت روحي تنبض بالأمل، والأدب كان شعاع الضوء الذي يوجهني، والفلسفة كانت الحبل الذي يربطني بالأرض. ولكن كيف للإنسان أن يحافظ على روحه عندما تنهار الأرض من تحت قدميه؟ كيف تظل شاعراً، كيف تظل مفكراً، وأنت ترى وطنك يتفكك؟
ثم جاء سقوط صنعاء، وكان أشبه بتساقط الجبال، وانقضاض العواصف على مدينة دمت، مسقط رأسي. أتذكر تلك اللحظات، والدماء التي اختلطت بغبار الحرب، والخراب الذي أتى على كل شيء. كان الوطن الذي أحببته ويتنفس فيه شعري وأفكاري، قد بدأ يذوب بين يدي. كيف أكتب، كيف أبدع، وأنا أرى وطنًا يغرق في الدماء؟ كيف أكون شاعراً أو كاتبًا وأنا في مرمى قذائف الحرب؟ كانت الجراح التي تعرضت لها في جسدي تذوب روحي، وتأخذ مني شيئًا كان ذات يوم نابعًا من فضاءٍ واسعٍ ونقي، ثم أصبح الآن ضيقًا وكئيبًا، وكأنني أعيش في كفنٍ مبللٍ بالدم.
ومع كل ذلك، كنت ما أزال أبحث عن ذاتي، عن تلك الروح الطروبة التي كانت تسبح في بحور الأدب والفكر. لكني لم أكن أستطيع. كانت الروح تبتعد أكثر فأكثر، وكأنها ترفض العودة إلى جسدٍ كان قد سُلب منه كل شيء، وأصبح مجرد كومة لحم لا عظم فيها ولا روح. كنت أبحث عنها، أصرخ في الداخل، في أعماقي، لكني كنت أسمع صدى صوتي فقط. كانت الأوجاع والأحزان قد تكومت داخلي، وتخلى عني ذلك النور الذي كان يملأ حياتي.
ثم جاء قرار هجرتي، كان مرًا كما هي الوعود المكسورة، كان مشقة لا تُحتمل. كانت الهجرة إلى أوروبا أشبه بالفرار من وطنٍ لم يعد موجودًا، لم يعد المكان الذي كان يضم أفكاري وأحلامي. هنا، في الغربة، أين يمكن أن أجد الروح التي كنت أحملها؟ كيف يمكن أن أسترجع تلك النبضات الفكرية التي كانت تتناغم مع صدى الأرض والوطن؟
وها أنا اليوم، أعيش في مفترق الطرق بين الماضي والحاضر، بين حلمٍ قد انتهى، وروحٍ ضاعت في قلب الحروب والنزوح. وفي كل يوم، أبحث عن تلك اللحظات التي كنت فيها في قمة عطائي الفكري، في قمة جموحي الإبداعي، وفي أوج نضالي من أجل وطني. كنت أكتب بكل حرقة، بكل شغف، كنت أناضل بالكلمة والفكرة من أجل اليمن، من أجل الناس، من أجل كل من حلم بوطنٍ يليق بعقل الإنسان وقلبه.
لكن اليوم، لا أستطيع أن أستعيد تلك الروح. أنني أُحس وكأنني أذبل يومًا بعد آخر، وأصير أكثر قسوة على نفسي. تلك الأيام التي كنت أستيقظ فيها على إلهامٍ لا ينتهي، تلك الأيام التي كنتُ أكتب فيها التاريخ بمداد من شغف وإيمان. أين هي تلك الأيّام؟ أين كان ذلك الإبداع الذي جعلني أرى العالم مختلفًا؟
لقد صرت اليوم أطوي صفحات العمر، وأنا أبحث عن نفسي في زوايا الروح المفقودة، وكلما جئت لكتابة كلمة، أشعر بالحروف وهي تتناثر من بين يدي كأنها غبار، وكأنها لا تحمل سوى آثار خريفٍ قد مرَّ. أبحث عن لحظةٍ من النور، لكن الظلام أعمق في داخلي. قد يعتقد البعض أن الزمن يعيد ترتيب الأشياء، لكنني أعلم الآن أن الروح لا تُسترجع بالزمن، ولا يمكن للغربة أن تعيد إليها بريقها.
يا لهذه الروح التي كانت، ذات يوم، تضيء المسافات بالكلمة والفكرة، والآن هي تائهة في الزمان والمكان، تبحث عن نفسها في ليلٍ طويل، بارد وبلا قمر.
من صفحة الكاتب على فيسبوك.
https://www.facebook.com/share/p/TmsJVojekfPqXaDH/
