لا تكف عن السقوط

الصحفي الاستقصائي يسري فودة:
ما أن أعلن مسؤول الأمم المتحدة اليوم عن وقوع غرْة رسميًا في دائرة المجاعة وفقًا للمعايير العلمية حتى أرفقته بي بي سي نيوز فورًا بتقرير صُنع بالمعايير الإس.رIئيلية. لم يحتو التقرير رد وزارة الخارجية الذي ينفي تمامًا وجود أي مجاعة فقط، بل أيضًا سلسلة طويلة من الأكاذيب المعلبة ومقطعًا من فيلم دعائي من صُنع إس.رIئيل يحتوي مشاهد مكثفة لكافة أنواع الطعام الشهي التي تصل إلى القطاع بصورة متواصلة مع تساؤل بالخط العريض على الشاشة: “هل هذا تجويع؟”، ولم ينس تقرير بي بي سي أن يسد الطريق على المتسائلين فقرر من تلقاء ذاته أن الخطأ يكمن في أن الطعام في معظمه يتعرض فور وصوله للسلب والنهب.
لم تعد بي بي سي حتى تبالي باحترام عقل من لديه نصف عقل. لهذا جذور تكمن في علاقتها بوزارة الخارجية البريطانية التي تتحكم في ميزانية أقسامها الخارجية. فحين طفت فكرة إنشاء قسم باللغة العربية بينما كانت ثورة فلسطين الكبرى في أوجها، أوعزت الخارجية لإدارة بي بي سي بأن المعايير التحريرية لهذا القسم لابد أن تختلف عن غيرها في الأقسام الأخرى بحجة أن المستمع العربي “أقل إدراكًا” من بقية شعوب العالم. وبكل ما في هذا من فوقية وعنصرية، كان السبب الحقيقي في الواقع هو السيطرة على ما يصل إلى عقل المواطن العربي في منطقة حساسة تزخر بالمصالح الاستراتيجية.
لهذا، لم يكن القسم العربي لهيئة الإذاعة البريطانية يومًا ما مهتمًا حقًا بتوظيف صحفيين بقدر ما كان مهتمًا بتوظيف مترجمين من ذوي اللغة السليمة والصوت الحسن، يعكفون دون تجويد على ترجمة ما يصلهم من غرفة الأخبار المركزية التي يسيطر عليها طبعًا أصحاب الدار. رغم كونها مدرسة كبرى، يتركها دائمًا من يستطيع بديلًا نحو آفاق صحفية أرحب، ومن لا يستطيع يبقى وهو يحاول العيش مع الإحباط، خاصةً في مثل هذه اللحظات.
الجديد، أن نظرة الحكومة إلى القسم العربي لدى نشأته اتسعت منذ “طوفان الأقصى” كي تشمل كل ما يصدر عن الهيئة. ينطبق اليوم على المواطن البريطاني ما كانت تقصده وزارة الخارجية بشأن المواطن العربي في ثلاثينات القرن الماضي. والمؤسف، بالنظر إلى تاريخها الثري، أن بي بي سي لا تعدم سبيلًا كما يبدو نحو مزيد من السقوط منذ ذلك “الطوفان”.