لعنة التخصص

صلاح الحقب: لعنة التخصص
أعتزم مغادرة البلد بخيار الغربة، على أمل الاقتراب من وجه المستقبل الذي جهلته طيلة عمري هنا، وعلى أمل إتاحة فرصة استكمال الدراسات العليا إن أمكن لي ذلك.
أنا هنا كواحد من بين آلاف الشباب التعيس. لم أجد نفسي منذ التحاقي بالجامعة إلا مُدانًا بالتخصص! “إعلامي” كانت هذه تهمة صريحة أكثر من كونها صفة مهنية كأي صفة أخرى. محاصر بالجغرافيا وتصنيفها وفقًا للقوى المسيطرة. أسكن في طرف تحكمه جماعة تدين دراستي ووجودي في جغرافية الطرف الآخر الذي يحكمه خصمها. الطرف الأخير أيضًا يبني فكرة انتمائي على ذات الاعتبار، بحيث لا يمكنني ممارسة مهنتي بحرية دون تحرزات شديدة ومخاوف جمّة، رغم أن اهتمامي بالمجال المهني بعيد كل البعد عن الفكر الخاص بأي طرف من الأطراف. وما السياسة عندي إلا محض وحل وسفالة تُجرّد الإنسان من قيمه كإنسان، حتى وإن حملت قضية في مثل هذا الحال.
وهكذا، وضعني الواقع أمام ثلاثة خيارات تحدد وجهتي بأحدها: إما أن أضحي ببقائي في منطقتي وأسرتي وأستقر بوظيفتي في الجغرافيا التي درست فيها ومكنتني من إيجاد نفسي، أو أستقر في منطقتي بمهنة ستحرمني من وجودي في تلك الجغرافيا، أما الخيار الثالث يفرض عليّ أن أتخلى عن هويتي ومهنتي وتخصصي بشكل نهائي، وذلك ما يجعلني أفقد نفسي في ضياع لا نهائي. وكان هذا الأخير خياري الحاسم، بقناعة مريرة جدًا.
رميت نفسي في عزلة مهنية كارثية، لولا أن تداركت نفسي بالتعلم المستمر واقتناص الفرص التي وفرتها المنصات الإلكترونية عبر الدورات والورش المتعددة. عملت بشكل طفيف جدًا في الجانب المهرجاني لبعض المدارس والجامعات بفترات متباعدة جدًا، وكتبت بعض المواضيع الصحفية والأدبية في إطار الأدب والفنون والمجتمع بصورة ضئيلة جدًا، دون أي عائد أو فوائد مادية. بل كان ذلك تطوعًا ورغبة في الإنتاج دون الاستسلام، رغم كمّ هائل من الضغوطات والمحاربات التي تملك القدرة على تحطيم كل رغبة لدي في الاستمرار.
أي كابوس هذا الذي جعل البقاء بين الأهل وفي ربوع الوطن فكرة مؤرقة تُضني الإنسان وترميه في عذابات قاسية تسرق منه عمره بحرمان لا مثيل له؟!
ليتهم على الأقل يدركون حجم المأساة التي برعوا في خلقها لإنسان هذا البلد، ويتيحون له فرصة الهروب بعيدًا. إذ أن السفر خارج البلد يعد أمرًا تعجيزيًا من حيث كُلفته التي تفوق كلفة سفر أي مواطن في دول العالم كله، بالإضافة إلى تعقيدات الحصول على تأشيرة، كوننا حُشرنا في قائمة سيئة باستثناء كارثي، وكأننا وحوش مستعرة قد تخلق ضررًا كبيرًا خارج حدود هذا الوطن!
لله الشكوى…