لماذا تصمت النخب في لحظة تشظي اليمن؟

د. مصطفى ناجي:
لا شك أن ما حدث في الأيام الماضية في محافظات الشرق اليمنية شكّل هزّة كبيرة، وربما زلزالًا سياسيًا حقيقيًا. والطبيعي أن يخلق تفاعلاً كبيراً في الأوساط الثقافية والسياسية، ويتحول إلى الشأن الأول الجاذب الذي تدور حوله الآراء. لكننا للمفارقة نقف أمام شلل تام في التفكير والتعبير سائد بين نخب البلاد في كل الاتجاهات؛ في الجنوب والشمال، في الشرق والغرب.
نعم يمكن فهم أن حدثاً كهذا يخلق ذهولاً كبيراً وصدمة. لكننا أمام ما هو أكثر من الذهول. ما نراه اليوم هو تعبير واضح عن غياب صوت نخب الجنوب والشرق وما يمكن تسميته مجازًا نخب الشمال الممهورة بغياب انسجام كامل بسبب تشتتها وقبض الحوثي على الجزء الأكبر من جغرافية الشمال .
أظن أن عشرة أيام كافية للخروج من هذا الذهول، والعودة إلى التفكير بصوت عالٍ، والتفكير في مستقبل البلاد، دون أن يُترك موضوع الانفصال أو الوحدة لأصوات تحتكر هذا الاتجاه، سواء الانتقالي المحتكر لقضية الانفصال أو طرف لا يرى غير الوحدة الاندماجية السلطوية التي صنعها صالح وحلفاؤه.
الأمر يتجاور الذهول. بل إني أرى خمسة أسباب لهذا الصمت.
لفهم لماذا تصمت النخب الجنوبية والشرقية وما يمكن أن نطلق عليه مجازًا نخبة الشمال، علينا أن نفهم ما الذي حدث لها خلال أكثر من خمسة عشر سنة.
اولاً: الهدم وإعادة البناء
حاول الحوار الوطني استيعاب ومعالجة الأزمات المزمنة في البلد، لإعادة النظر في صياغة الوحدة الاندماجية باقتراح الفيدرالية، ورفع خطاب إدانة كامل للنخبة السياسية التي أدارت المشهد قبله، وبالتالي كانت نخب الشمال على وجه الخصوص في حالة إدانة دائمة، وتولّد لديها شعور بالذنب، حتى وإن لم تكن مشتركة على نحو مباشر أو غير مباشر بما انتهجه النظام.
هذه الإدانة المكثفة وشعورها بالذنب جعلاها عاجزة عن الحركة والتفكير الآن، وتحجم عن الحديث ضمن إحساس بالذنب الذي تولّد لديها من خلال صور وتمثيلات عنها قد تكون خاطئة تمامًا.
تحمّل كل مواطن من محافظات الشمال ذنبًا سياسيًا لم يشترك فيه بشكل مباشر، بل كان ضحية له، وهذا في الغالب، لم يكن ذنب الشمال بقدر ما كان ذنب النخبة السياسية المتحالفة مع نظام صالح وهي خليط من منتفعين من كل البلاد بنسب مختلفة.
ثانياً :ضرب التلاحم الاجتماعي
الأمر الآخر الذي يقود إلى هذا الخمول والعجز عن الحركة هو أن التلاحم والتماسك الاجتماعي في اليمن قد أُصيب بمقتل، ووصل التمزق الاجتماعي إلى حالة لا يمكن فيها خلق نخبة يمنية مشتركة، وهذه كارثة أساسية تولّدت من رحم هذه الحرب.
ثالثاً: نخب قاصرة
أضف إلى ذلك أن النخبة اليمنية بمجملها، دون استثناء، أوكلت شأنها إلى أطراف إقليمية، وبالتالي أصبحت في وضع ترى فيه أن شأنها شأن دول الإقليم، ولهذا تنتظر أولًا التحرك الإقليمي لتتفاعل معه لاحقًا.
رابعاً: توظيف مكافحة الارهاب في دالة لتحقيق السياسة
ثم هناك إشكالية أساسية في طبيعة الفعل الذي يمارسه الانتقالي، الذي يربط قضية استعادة الدولة بمكافحة الإرهاب، وبالتالي يلصق هذه التهمة بكل ما يمكن أن يقف ضد مشروعه، وهذه خطورة كبيرة تلجم الناس المختلفين الآن، لكن خطورتها ستظهر في المستقبل.
التوظف المفرط والمسيّس لقضية أمنية في مقام مكافحة الارهاب ينذر بمرحلة أمنية قاسية مدموغة بالعنف. لأن الكيان السياسي الذي جعل من مكافحة الإرهاب بتوظيف سياسي، قلبه النابض، لن يتمكن من التخلص منه لاحقًا.
خامسا: اقتسام الجغرافيا اليمنية إقليمياً
النقطة الأخيرة تتمثل في طريقة إدارة ملف الحرب على الجماعة الحوثية. كانت هذه الطريقة تقوم على اقتسام مهام، في جوهرها اقتسام جغرافيا.
وبالتالي لم تقد هذه الطريقة إلى تعبئة المجتمع اليمني كله لمهمة استعادة الدولة إنما عزلت محافظة الشرق عن المعركة إلا بقدر تضرره هذه المحافظات. وفي المحصلة أقحمتها في معركة سياسية أخرى ليست من طبيعة استعادة الدولة من الحوثيين انما ما بعد استعادة الدولة. لم تقوم حرب استعادة الدولة على جعل الحكومة اليمنية التي كانت مصدر شرعية هذه الحرب هي المرتكز الأساسي في هذا الفعل.




