منقبة لا تكتب رواية: فحجابها عائق بين عقلها والإبداع

همدان الحقب:

الرواية، في جوهرها، هي عالم من الخيال اللامحدود، رحلة عقلية وروحية تتجاوز الواقع المادي، وتنطلق نحو فضاءات الفكر الواسعة، حيث يتسنى للأبطال أن يمروا بتجارب غير محدودة، وتتعدد الآفاق والاحتمالات. هي تخييل وتحليق في فضاء منفتح، حيث يكون العقل حراً من كل قيد، والروح حية في بحث دائم عن معنى، عن غاية، عن تحول. ولكن ماذا إذا كانت الروائية نفسها محكومة بقيود خارجية، تقيد جسدها، وتحبس وجهها خلف ستار من قماش؟ كيف يمكن لشخصية أن تكتب رواية وهي أولاً لا تستطيع أن تكشف وجهها للعالم، وهو المدخل الأول لشخصها وكينونتها؟ هل يمكن لمن عاشت حياتها مسجونة خلف “مأساة النقاب” أن تكتب رواية تلامس الخيال وتحرر العقل؟
النقاب، في ثقافات عديدة، ليس مجرد زي أو لباس، بل هو حجاب يُخفي أكثر من الوجه المادي، فهو غالباً ما يترافق مع تقييد للفكر، وتهميش للذات الإنسانية في كثير من الأحيان. فكما أن الوجه هو مرآة الروح، فإن النقاب يمنع هذا التفاعل البصري المباشر بين الفرد والمجتمع، مما يعمق عزلتها ويُحجم قدرتها على التعبير الكامل عن نفسها. كيف لها أن تُبدع في الكتابة إن كان أول ما تعيشه في يومها هو الصمت، والإخفاء، والاختباء؟ كيف لمن لم تستطع أن تزيل النقاب عن وجهها أن تُزيل الغشاوة عن أفكارها وتمنح الضوء لعقلها في الظلام؟
الرواية، كما نعلم، ليست مجرد سردٍ لأحداث عابرة أو استعراض لقصص مشوقة. هي أكثر من ذلك بكثير؛ هي استكشاف لطبائع الإنسان، وتحليل للأبعاد النفسية والعاطفية لعقله وقلبه. الرواية هي مرآة لروح الكاتب، حيث يعكس الكاتب نفسه في شخصياته، في ما يحدث لها، وفي الطريقة التي يتعامل بها مع العالم. ولذا فإن أي كاتب – سواء كان رجلاً أو امرأة – لا بد له من أن يكون حراً في تعبيره، في أفكاره، وفي رؤاه. لكن المنقبة، التي تُجبر على إخفاء جزء من هويتها، قد تكون محكومة أولاً بتقييد الفكر داخلها قبل أن تُقيّد جسمها.
هل يمكن أن تكتب المنقبة رواية؟
لنفكر في هذا السؤال بعمق. يمكن للمنقبة أن تكتب بالطبع، لكنها ستكتب وفق شروط وأطر محدودة، أطر تفرضها عليها بيئتها الثقافية والدينية، أطر تفرضها عليها التقاليد التي تختار أن تعيش ضمنها. فهل ستكون هذه الكتابة قادرة على أن تتجاوز حدود الواقع؟ وهل سيمكنها الإبحار في عوالم الخيال بحرية كما يفعل الكتاب الذين لم تُحجب أمامهم تلك الحدود؟ قد تكون الكتابة بالنسبة لها تمثيلًا لحياة محكومة، لا تمثل “الفكر المتحرر”، بل سجنًا لأفكارها في قالبٍ ضيق، يعجز عن التجاوز.
إذا كان الفكر الإبداعي يحتاج إلى تحرير، فإن الشخص الذي اختار أن يعيش خلف قيدٍ مادي، وإن كان طوعياً، قد يكون قد اختار في الوقت ذاته سجنًا لفكره. العقل الذي لا يستطيع أن يتجاوز قيدًا مادياً بسيطاً مثل النقاب، قد يكون عاجزاً عن تجاوز الحدود الفكرية والنفسية التي تصاحب هذا القيد، والتي تقيّد رؤيته للحياة وللواقع. كيف لرواية أن تكون فعلاً تحرريًا، وأن تستكشف أعماق الإنسان، إذا كانت صاحبتها لا تستطيع حتى أن تُحارب قيدها الظاهري؟ الرواية تتطلب عقلاً منفتحًا، وقلبًا مستعدًا لاستقبال كل ما هو جديد، ولا يمكن لأي عقل محكوم أن يخرج من سجن الذات ليتجاوز القيود الحقيقية التي تشده إلى واقع مظلم.
الرواية: خيال متجاوز وعقل متفتح
إذا كانت الرواية هي تخيل العالم بطرقٍ جديدة، واستكشاف المعاني الغائبة وراء الأحداث، فإن من يتعذر عليه أن يكشف وجهه، سيصعب عليه أيضًا أن يكشف الحقيقة الكامنة وراء السطور. الكتابة تتطلب مواجهة الذات، والنقاب الذي يحجب الوجه في العالم المادي، هو ذاته الذي قد يحجب الوجه الفكري والروحي للكاتبة. إن كانت الكاتبة لا تستطيع أن تتخطى المأساة التي يعيشها جسدها وراء النقاب، فكيف يمكن لها أن تفتح نافذة لعقلها، وكيف لها أن تُغني الرواية بالأبعاد المعرفية والفكرية التي تحتاجها؟
الرواية ليست مجرد مواقف وأحداث تُكتب، بل هي رؤية وتخيل ينبعان من تجربةٍ إنسانية حرة. والتجربة الحرة تفرض أن يكون الكاتب قادراً على التعبير عن كل جوانب نفسه، وأن يكشف كل ما يراه ويشعر به دون أن تكون هناك حدود تقف في طريقه. المنقبة، في هذه الحالة، لا تملك هذه القدرة؛ فهي لا تستطيع أن تكشف عن وجهها، ومن ثم لا يمكنها أن تكشف عن خيالها، فخيالها سيكون مشروطًا بالأطر التي تضعها حول نفسها.
خاتمة:
إن الرواية هي عالم متجاوز للواقع المادي، وهي تشكل تفاعلًا مع اللامحدود. أما المنقبة، فهي محكومة بنظام يجعل خيالها مغلقًا، وفكرها مقيدًا، وبالتالي، يصعب عليها أن تُبدع في هذا النوع من الكتابة الذي يتطلب سعة أفق وتحررًا من كل قيد. لن تتمكن من أن تكتب رواية تمس عمق الإنسان وعقله إذا كانت أسيرة النقاب، الذي يحجب عن العالم وجهها، وعن نفسها حقيقتها الكاملة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى