من إسقاط الحاكم إلى إسقاط كرامة المواطن

جولان الوريدي:

في التاريخ، لما الناس غضبوا على عثمان بن عفان، حاصروه في بيته ومنعوا عنه دخول الماء، والهدف كان واضحًا: إما يتنازل أو ينهار، فالعطش كان سلاحًا ثوريًا. هذه قصة يعرفها الأغلب في كتب التاريخ : أَحرِم خصمك من الحياة كي يسقط.

لكن سلطة تعز شكلها تقرأ التاريخ عشان ترجع تطبقه علينا.

مقالات ذات صلة

يا سلام… سلم ، السلطة ابتكرت شيئًا أكثر راديكالية: بدل ما تحاصر حاكمًا وتمنع عنه الماء، حاصرت المواطنين نفسهم! قطعت عنهم الماء عشان، ما أدري، يمكن يريدون يغيّرونا إحنا؟ السلطة في تعز أدركت أن المواطنين لا يتغيرون بالحصار بل بالتعطيش، ليس لتسقطهم بل لتعيد إنتاجهم، تتركهم يختنقون ببطء لا ليموتوا، بل ليتحولوا.

الفكرة ليست التخلص من المواطنين بل إعادة تصنيعهم؛ يعني لازم المواطن ينسى فكرة أنه مواطن عنده حقوق، يريدون عبيدًا متعطشين إلى أبسط قطرة ماء حتى ينسى. هذا العبد عطشه للكرامة يجعله يرى صهاريج المياه كأنه تجلٍّ إلهي، فيركع له ويقبّل أقدامه، مواطنًا معجونًا باليأس حدّ أن يقدس حتى السلطة التي عطشته. وهنا يظهر الجنون الأيديولوجي في أوضح صوره: لا يكفي أن تحكم الناس بالقوة والظلم، بل عليك أن تعيد تشكيل رؤوسهم لتتقبل العبودية كنعمة، وتتعامل مع شريان الحياة — الماء — وكأنه منّة سماوية لا حقّ طبيعي.

هذه هي عبقرية الحصار الخبيثة: أن تترك ضحاياك يشربون قطرة ثم قطرة، حتى يعتقدوا أن هذه القطرة ليست حقهم بل فضلٌ من الطغاة. وفي النهاية يصبح المواطن الجديد الذي وُلد من الحصار أكثر طواعية، أكثر خنوعًا، وأكثر قابلًا للقيادة.

هذه السلطة لم تتعلم شيئًا من التاريخ سوى قلبه رأسًا على عقب: بدل أن تحاصر حاكمًا لتغيّره، تحاصر الشعب لتغيّره. هذه هي الثورة المضادة بأقذر أشكالها، حيث لا يتم إعدام الجسد بل يتم إعدام الوعي، إعدام الإرادة، وتصبح عقول الناس قابلة للضغط والقولبة إلى ما لا نهاية.

من إسقاط الحاكم إلى إسقاط كرامة المواطن… هذه باختصار سلطة تعرف كيف تحوّل الإنسان إلى عبدٍ عطشان يشكرها سبحانه لأنه لم يتركه يموت تمامًا.”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى