وليد دماج… قنديل الذاكرة وروح لا تغيب

همدان الحقب:
ثمة وجوه تظلّ حاضرة وإن غابت، وأرواح لا تفارقنا حتى وإن وارى التراب أجسادها. هكذا هو وليد دماج؛ صديقي وأخي ورفيق دربي، الذي يأتيني كل عام مع إشعارٍ باردٍ من “الفيس بوك” ليذكرني بيوم رحيله، فينهض الحزن من سباته، وتستفيق الذاكرة كمن يُسكب عليها فجأة نهر من الدموع.
لم أعرف في حياتي من ألفتُه كما ألفت وليد، ولا من فتحت له أبواب قلبي كما فتحتها له. جمعنا الفكر، ووحّدنا الأدب، وشدّنا الحلم المشترك إلى عوالم السياسة والنضال والثقافة. ومعه، كنت أحلّق في سماوات لا تنضب، تعجّ بالحديث الممتع والجدل المثمر والضحكات التي تزرع الأمل في القلب.
كان وليد طاقة متدفقة لا تعرف الكلل، شابًا بروحه حتى ليصغر عمره بعقود. كان يحيل العبارة إلى لوحة منسوجة بالدهشة، ويصوغ الفكرة بأناقة تجعل من حديثه فنًا قائمًا بذاته. ولطالما تساءلت: أهو الكاتب الأجمل أم المتحدث الأروع؟ حتى وقعت بين يدي روايته الخالدة “ظلال الجفر”، فاكتشفت أن وليد جمع المجدين معًا؛ روائيًّا من العيار الثقيل، ومتحدثًا يفيض بالعذوبة.
معه قضيت عامين في القاهرة وعدن، عامين كانا بمثابة عمرٍ مكتمل. كنا لا نشعر أن لحظة بلغت ذروتها ما لم نكن فيها معًا. كنت أقرأ عليه الشعر الشعبي وأروي الحكايات فينصت باندهاش، وكأن كل قصيدة وُلدت لتُلقى على مسامعه. كان وليد يجيد فنّ تحويل اللحظة العادية إلى ذكرى لا تُنسى.
ولم يكن صديقي معلمًا في الأدب وحده، بل في الحياة أيضًا. كنت أتعلم منه يوميًا درسًا جديدًا في الصبر، في المثابرة، في الحب. شدتني كثيرًا طريقته في التعامل مع أبنائه؛ يوجّههم بحنان وصبر، كأنه صديقهم لا والدهم. وذات يوم قلت هذا للرفيق العزيز عامر دماج، عم وليد وصوت الفن الأصيل، فابتسم وقال: “هذا الأسلوب هو ميراث من أبيه؛ فقد كان كذلك مع وليد وإخوته.” هكذا كان وليد امتدادًا لجذور أصيلة، وفرعًا باسقًا يظلّل من حوله.
مع عامر ووليد كثيرًا ما غنّينا، وسافرنا بأصواتنا في فضاءات الإنسي والسمه والحارثي، نبحر مع أغاني اليمن كأنها سفينة طرب تعيدنا إلى فردوس مفقود. واليوم، كما أنا، يعيش عامر ثِقل الفقد ومرارة الغياب. قبل شهر كتب لي يسأل عن حالي ويبوح بشوقه، وقال: “كيف حالك يا همدان؟ والله إني أحببتك كما أحببت وليد.”
حين قرأت عبارته جاشت روحي بالبكاء، وانسابت الذكريات دفعة واحدة: ليالي القاهرة، ضحكاتنا، أحاديثنا، وانتهت الصورة بلحظة الغياب. أدعو الله أن يحفظ عامر ويطيل عمره، وأن يبقيه بيننا مرآة تنعكس عليها سنو الألفة والجمال.
لقد كان وليد، بجسارته وكرم نفسه وسخاء روحه، ملاذًا لكل أصدقائه. تذهب إليه محمّلًا بالحزن فتعود خفيفًا، تقصده مثقلًا بالخذلان فتخرج ممتلئًا بالأمل. لم أرَ أحدًا يملك هذه القدرة على احتضان أصدقائه، مهما كثُروا وتفرّقوا. ظل صوته يرافقني في غربتي، من القاهرة إلى موسكو إلى مينسك، كصوت أخٍ حانٍ يسكب الطمأنينة في الروح ويعيد إليها نبضها.
لم أتخيل يومًا أن وليد سيرحل بهذه السرعة. كان قد تجذّر في داخلي لدرجة جعلتني أظن أن عمره سيمتد لقرن ونيف. لكنّه رحل… رحل جسدًا، وبقي فينا روحًا لا تغيب، وصوتًا يتردّد، وذكرى لا تبلى.
إن رحيل وليد دماج لم يكن فقدان صديق فحسب، بل كان خسارة عالمٍ من البهجة والإبداع والوفاء. ومع ذلك، أؤمن أن الأرواح العظيمة لا تموت؛ بل تتحول إلى قناديل في الذاكرة، تضيء دروبنا كلما أطبق الظلام. وليد واحد من هؤلاء… باقٍ ما بقينا، حاضر وإن غاب، رفيق وإن ابتعد، وأخٌ تسكن ملامحه فينا إلى الأبد .
صورتي بعدسة الفقيد وليد دماج في مجلس المثقف والسياسي الكبير مطيع دماج والصورة الثانية برفقة وضيافة الاستاذ العزيز والمثقف الكبير عبدالعزيز الماطري في الضالع وفي أحد أيام عيد الأضحى، إن لأيامنا الثلاثة ما يستحق أن يكتب بأحرف من نور كان الأستاذ عبدالعزيز الماطري فيها قنديل أيامها وبلل أحاديثها. زرنا ثلاثتنا الضالع ومريس .