مناورات الحوثي بشعار “لستم وحدكم”… رسالة ابتزاز لجارٍ لا لعدو

د. علي العسلي:

في الوقت الذي يسعى فيه العالم إلى إيقاف الحروب وإخماد بؤر التوتر، تقيم جماعة الحوثي مناورات عسكرية واسعة قرب الحدود السعودية، في مشهد يعيد إلى الأذهان وقائع ما قبل “عاصفة الحزم” في 26 مارس من العام 2015، وكأنها تقول للسعودية والعالم: الهدنة وخارطة الطريق والسلام مجرد فكرة قديمة وعقيمة، استفدنا منها لبناء قدراتنا، وها نحن نعرض مخرجاتها.

أما الآن، فنحن متجهون نحو استئناف الحرب، حتى وإن ارتدت هذه العصابة الحوثية عباءة القضية الفلسطينية أو لبست قميص غزة!

تحت شعار “لستم وحدكم”، نفّذت الجماعة مناورة عسكرية زعمت أنها تحاكي استهداف “العدو الصهيوني”، لكنها عمليًا كانت أقرب إلى رسالة موجهة للجار السعودي، الفاعل الإقليمي الأول في اليمن.

فهل ما حدث غباءٌ استراتيجي؟ أم استفزازٌ محسوب لتحسين شروط التفاوض؟ أم أنها قفزة انتحارية يتوهّم الحوثي أنها ذكية؟ وهل في الانتحار ذكاء، خاصة إذا جاء في توقيت إقليمي بالغ الحساسية لا يحتمل هذا النوع من العبث؟

إنه تقليد أعمى لما فعله نتنياهو حين نجح في دفع ترامب نحو مواجهة مع إيران… واليوم، هل ينجح الحوثي، بغباءٍ مشابه، في جرّ المملكة إلى حرب لا طائل منها؟ ذلك هو الغباء بعينه، لا الذكاء!

وبينما المبعوث الأممي يزور مدينة عدن، يتجاهله رئيس مجلس القيادة الرئاسي، لسبب لا يُعرف إن كان انشغالًا فعليًا، أم موقفًا رافضًا لمبعوثٍ محمَّل بأجندات لا تخدم اليمن. خصوصًا أن “ثمار” الهدنة التي رعاها خلال ثلاث سنوات ظهرت في تلك المناورة التي جرت على حدود المملكة، وفي ذلك البناء المتدرج لقدرات الحوثي القتالية المجهزة للانقضاض على مواقع الشرعية، متى قرر – بذكاء أو بغباء – تنفيذ ذلك.

في المقابل، كانت جماعة الحوثي تستعرض ما تُسمى بـ”قوات المهام النوعية”، تقصف دويلة إسرائيل لفظيًا، وتناور عمليًا على مشارف الأراضي السعودية، لا على حدود الأراضي المحتلة!

وقد أعلنت الجماعة أنها استهدفت “مواقع إسرائيلية حساسة”، فجاء الرد سريعًا من وزير دفاع الكيان الصهيوني، مهدِّدًا بـ”قطع يد الحوثي” وضرب صنعاء كما ضُربت طهران.

وفي الوقت نفسه، استحضر السفير الأميركي قاذفات “بي-2” الشبحية، ملمّحًا إلى أنها قد تزور اليمن كما زارت إيران من قبل؛ زيارة لن تكون سياحية بالطبع، بل موجهة لتطيير الرؤوس، وتوثيق مشاهد الغباء العسكري المباشر!

أما السلطة الشرعية، فهي على ما يبدو في سبات عميق، أو في استراحة محارب طالت حتى نسينا وجه المحارب!
لا لقاءات، لا قرارات، لا تحركات جادة.
الرئيس مشغول بتفعيل المؤسسات، والمجلس الرئاسي مجلس بلا اجتماعات، وقيادة بلا قيادة، ورئاسة برؤوسٍ متناحرة، كأخطبوط تتضارب أذرعه، لكنه عاجز عن الإمساك بأي ملف حاسم، سوى مشاكله الداخلية.

فهل تأجيل اللقاءات وتعطيل المجلس مجرد عارض عابر؟ أم هو استمرار لإتقان مسلسل إضاعة الفرص؟

الحوثي يراكم أوراق القوة، بينما الشرعية تفرّط بها بلا اكتراث، وكأنها تقول: “الفرص كثيرة، ولا داعي للعجلة!”

فهل نعفي الشرعية من اللوم إذا نجح الحوثي في فرض نفسه كرقمٍ صعب في معادلة ترحيل الأزمات، بدلًا من الإسهام في صياغة سلامٍ عادل وشامل؟ حقًا، نلومها، بل ونتهمها بالتخاذل والتقصير، في ظل هذا التردد والضعف الفاضح في اتخاذ القرار.

لقد تحوّلت الجمهورية اليمنية، للأسف، إلى كونفدرالية من الجيوش والمليشيات، كلٌ منها يدين بالولاء لراعٍ إقليمي، أو يتبع مزاج قائد ميداني، أو يُدار بعقلية سوق التحالفات المؤقتة.

وأصبحت غابة للوحوش الذين ينهشون بأنيابهم ومخالبهم الشيوخ والعلماء والأطفال في منازلهم وهم آمنون، كجريمة قتل الشيخ صالح الحنتوس، وقبلها تدمير بيوت رداع على ساكنيها.

فلا قرار مركزي، ولا مشروع وطني، ولا عدل، ولا إنسانية… بل فسيفساء من الكيانات التي تتنازع الجغرافيا والثروة والشرعية.

وفي خضم هذا العبث السياسي والعسكري، يبقى المواطن اليمني وحده من يدفع الثمن، متروكًا لمصيره بين جوعٍ ينهش أطفاله، وخوفٍ لا يغادر بيته، وسقف وطنٍ يتداعى فوق رأسه، دون أن يلتفت إليه أو يرحمه أحد.

فهل آن الأوان لتوحيد هذه الكيانات المتشظية تحت راية دولة واحدة، وجيش وطني واحد، وقيادة واحدة؟

أم أن الحوثي – رغم غبائه الظاهري، وبدعم من شرعيةٍ أكثر غباءً فعليًا – سيكون هو الأقدر على استثمار اللحظة، وتحويل المناورات إلى مكاسب، والضجيج إلى واقع مفروض؟

لقد تحوّل اليمني البسيط إلى رهينة في لعبة أقوام لا يألفها ولا يفهمها، فليست من طينته، ولا يملك فيها سوى الانتظار… انتظار الغارات أو الهُدن، الفرج أو الفناء، بينما القيادات تتنازع المقاعد وتتركه وحيدًا على قارعة الألم.

يبدو أن الحوثي يضحك الآن، لا لأنه انتصر، بل لأن خصومه لم يبدأوا حتى السباق!

دويلة إسرائيل تهدد، وأمريكا تلوّح، وبعض مكونات الشرعية ودول من التحالف يضيعون في اجتماعات عبثية وخطط تنموية للمناطق “المحررة”…

تلك المناطق التي لم تتحرر بعد حتى من الفقر والجوع، فضلًا عن عبث الميليشيات واختراقاتها الأمنية وزرع الخلايا الإرهابية فيها.

أما آن للشرعية أن تستيقظ؟

فإما أن تستيقظ الآن، وتعيد ترتيب بيتها، وتوحّد صفوفها، وتسترجع قرارها، أو تنتظر لعنات الناس والتاريخ عند التوقيع على شهادة وفاة الجمهورية اليمنية، تحت عنوان “تسوية غير عادلة” تُمنح فيها صنعاء للحوثي على طبق من ذهب، لأنه أحسن لعب دور “المنتحر بغباء الشرعية، لا بذكائه”.

ما يجري… أهو الغباء، أم تحسين الشروط، أم الانتحار الأخير للحوثي، آخر معاقل ما سُمّي بمحور المقاومة؟!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى