الفيزياء التي أضاءت وجه المجرات… وتركت أعماقنا في ظلمة

كامل المعمري:

عندما التفت الإنسان إلى السماء، فعلها أول مرة بقلبٍ لا يعرف المعادلات. لم يكن يبحث عن سرعة الضوء، وانما عن نفسه بين النجوم. ولم يكن يحدّق في المجرات ليحسب كتلتها، وانما ليرى انعكاسه في ظلامها. ومع الوقت، صنعت الفيزياء مجهرًا خارقا لهذا النظر

قرّبت البعيد، ووزّنت الضياء، وكتبت على جسد الكون معادلاتٍ من ذهب… لكنها كلما سافرت بعيدًا في الفراغ، نسيت شيئا واحدًا خلفها: الداخل.

مقالات ذات صلة

نعم، لقد نجحت الفيزياء في اقتحام حدود الضوء، واستنطاق الفراغ، وحرّرت الجاذبية من هيبتها… لكن ماذا عن ذلك الثقل الذي يحمله إنسان في صدره عند منتصف الليل؟ ماذا عن الزمن حين لا يتحرّك، لا في المعادلات، اقصد في الشعور؟ من أين يأتي الخوف؟ ولماذا يُغمى على القلب في لحظة قرار؟

الفيزياء عظيمة، نعم… لكنها عرفت الكثير عن شكل الكون، وأبقت جهلا قاتما عن شكل الإنسان داخله.

ربما آن الأوان لنسألها ولكن ليس عن النجوم، وانما عنا نحن.. لأننا الوحيدون الذين نحاول أن نفهم الكون

طُرِدَ المعنى من الفيزياء منذ قرون. لُفَّ في سجادة الميتافيزيقا، ودُفن عند تخوم المعادلات، كأنه خطأ لغوي في كتاب مقدس. لم يكن نيوتن بحاجة للحديث عن الوعي حين رأى التفاحة تسقط، ولم يسأل أينشتاين لماذا يرى الإنسان الزمن كما لو أنه يسيل بين أصابعه كذلك فاينمان، بكل ألوانه، لم يكن يملك إلا أن يضحك على الأسئلة التي تُفرغ من تحت قدمي الجاذبية أرضا لا تُفسَّر. ولذا، عاشت الفيزياء طويلة بما يكفي لتصبح عجوزًا لا تحسن إلا التفسير، لكنها لم تطرح سؤالًا واحدًا عن الذي يفسّر.

ولذلك فإن كل ما قدَّمته الفيزياء حتى الآن، من إسحاق إلى ريتشارد، لم يكن أكثر من رقصٍ مضبوطٍ داخل صالة فارغة… رقصٌ بلا مرآة، بلا نية، بلا إدراك. هي أعادت تشكيل الزمان كبُعد، ولكنها لم تجرؤ يومًا على أن تسأل من الذي يرى هذا البُعد. لم تجرؤ على السؤال عن عين الراقص، عن السبب الذي يجعل جسيما ما يتحرك من ألف إلى باء، وعن اللحظة التي ينهار فيها الزمن دون أن يُسمع له صوت.

الفيزياء تتحدث عن الضوء، لكن لا أحد من كبارها تجرأ على قول شيء عن الرؤية…وتتحدث عن الصوت، لكنها لا تعلم ما السمع…و تتحدث عن الحرارة، لكنها لم تعرف يومًا ما الدفء. العلم الذي توغّل في أنصاف النوى وعاد بنموذج معياري يصف الجسيمات وكأنها أطياف في سيرك بلا جمهور، لم يستطع أن يفسّر لماذا يقف طفل على باب الغرفة ويشعر أن الزمن ثقيل.

الوعي في الفيزياء مسجون منذ أيام ديراك. يُذكَر في الهوامش، يُلمّح إليه في تفاسير كوبنهاغن، ثم يُغلق عليه الباب. لا توجد معادلة واحدة على امتداد النماذج القياسية تُدرج الإدراك كمتغير. لا توجد صيغة تقول مثلا إن الإدراك يولِّد الزمن، أو أن الشعور بالآن يغير احتمالات الحدث.

الفيزياء لا تزال ترى المراقب كما ترى الشجرة: شيء خارجي يلتقط النتائج، لكنها لم تُدرجه يومًا في المعادلة. رغم أن كل الفيزياء، من بدايتها حتى الآن، قائمة على مشهد يراقب فيه أحدهم شيئًا.. مشهد لا تكتمل الدالة الموجية فيه دون الملاحظة. مشهد لا يُطوى فيه الكون دون عين ترى. لكن أي عين؟ ومن؟ ولماذا؟ هذه أسئلة قذرة بالنسبة لعالِم فيزياء تقليدي.

لكن السؤال لا يختفي، ولو أُسكت ألف مرة. بل يعلو. كيف يتحرك الزمن؟ هل هو شيء؟ أم سلوك؟ لماذا نشعر به وكأنه ينساب، مع أنه في المعادلة ثابت؟ أين تتشكل اللحظة؟ لماذا يتفاوت الإحساس بالساعة بين عاشقين، وبين جثة وجهاز تخطيط القلب؟ الفيزياء لم تجب. كانت وما زالت، ترسم الزمن كخط على ورقة. تضع عليه نقطة الحدث، وتقول: هذه هي المعجزة. لكنها لم تسأل عن الورقة.

ولذلك، فإن الزمان في الفيزياء الكلاسيكية ليس سوى إطار هندسي. وفي الكم، محنة أكبر: زمن لا يمكن تكميمه. كأن الزمن استُثني من الفيزياء، رغم أن الفيزياء كلها تعيش فيه. وكأن العالِم قَفَزَ فوق الماء ليكتب عن حركة الموجة، ناسياً أن رئتيه تبلغانه الأوكسجين من تحته. الزمن، كما قُدِّم لنا، معطى لا يفسَّر. عنصر خارجي. حتمية عمياء. والفيزياء قبلته على هذا النحو، بلا رغبة، بلا مساءلة.

المكان كذلك. حاوِيَة. صندوق نُلقي فيه الجسيمات ثم نرى ماذا يحدث. لكنه صندوق غير مرئي، لا نعرف من أين يبدأ ولا أين ينتهي. كل الجهد كان أن نملأه بالحقول. أن نقول إن هناك في الداخل كواركات، وبوزونات، وأوتارًا، ولكن لم يسأل أحدهم: لماذا يلتقي كل هذا في نقطة واحدة؟ لماذا توجد البنية أصلًا؟ ما الذي يربط؟ ما الذي يُحدِث الوجود في هذا الموضع تحديدًا؟ الأسئلة الكبرى تم استبعادها كما يُستبعد من يطرح أسئلة غير لائقة في ندوة علمية.

ثم إن المادة، وهي جوهر كل فيزياء، لا تزال تُعامل كشيء. شيء “له كتلة”. له طاقة. له شكل. ولم تفكر الفيزياء يومًا أن الكتلة قد تكون مثلا سلوكًا.

أو أن الطاقة قد تكون نتيجة لتفاعل ما أبعد من الحقول. الكتلة تولد من أين؟ هل هي شيء في الذات؟ أم أثر لحالة أعمق؟ كل ما تفعله الفيزياء هو أن تتحدث عن حقل هيغز، وكأنها تُغلق الباب بمفتاح جديد فقط، دون أن تنظر خارج الغرفة.

وما من فيزياء، لا من ماكسويل، ولا من هوكينغ، تجرأت على تعريف الحياة. لا معادلة قالت إن الكائن الحي يختلف عن الجسيم لأنه يصدر زمنًا داخليًا، أو لأنه يحمل حضورًا. تم الاكتفاء بتعريف الحياة كما في البيولوجيا: تنفس، تكاثر، استقلاب. لكن ماذا عن وعي الكائن بذاته؟ ماذا عن الزمن الذي يمر بداخله ويؤثر في قراراته؟ لم ترد الفيزياء أن تسمع. رغم أنها قادرة، لو شاءت، أن تكتب الزمن كشيء يولد من الداخل.

إن اللحظة التي يُدرك فيها الإنسان شيئًا، تلك الومضة الخالدة التي تسبق الكلام، لا محل لها في فيزياء اليوم. تُعتبر خارج النص. تُحذف من المجلة قبل النشر. ومع ذلك، هي اللحظة الوحيدة التي تُحرّك الكون في بعض الأحيان. اللحظة التي تقرر فيها أم أن تضع جسدها أمام طفلها لحمايته من قنبلة، أو التي يقرر فيها شاعر أن يكتب ديوانًا يغيّر وجه وطن، أو التي يقر فيها مريض أن يحيا. هذه اللحظة غير موجودة في ميكانيكا الكم. غير معترف بها في النسبية. بل غير قابلة للتكميم.

ولا يوجد في الفيزياء اليوم شيء اسمه نية. لا رمز يُعبر عن القصد. لا تأثير لمَن يقرر ماذا. رغم أننا نعرف، نحن جميعًا، أن النية أحيانًا تُحرّك الجبال. أن الإرادة تُوجِد، أو تزيل. أن ما يجعلنا نستيقظ ونبني ونخاف ونثور، ليس الضغط، ولا الكتلة، بل ما نسمّيه نحن أنفسنا: القرار. ولا يُقابل هذا شيء في كل نظريات الفيزياء.

ثم لماذا، حقًا، لم تفكر الفيزياء في احتمالية أن تنشأ الطاقة من الوعي؟ أن يتشكل الزمن من انفعال؟ أن يولد المكان في لحظة يقظة روحية؟ كل هذا، كان يُنظر إليه كفلكلور. كميثولوجيا. أو كحلم شعري. لكن لا أحد سأل: ماذا لو كان كل هذا ما يجعل الواقع حقيقيًا؟

كل الفيزياء حتى الآن افترضت أن الكون مكان محايد. لا نية فيه، لا وعي، لا عاطفة، لا قصد. فقط قوانين تتحرك في فراغ. ولكن الحقيقة أعمق من هذا. لأننا، ببساطة، لا نعيش في فراغ.

لكن دعونا نذهب أبعد.

افترض أن هناك نقطة في الكون، لا يوجد فيها شيء. لا جسيم، لا حقل، لا طاقة، لا حركة. وفق الفيزياء الحالية، هذه النقطة هي فراغ. لا يمكن أن ينبثق منها شيء. لكنها موجودة. لماذا؟ لا جواب. الفيزياء تصمت.

والآن افترض أن هذه النقطة شهدت في لحظة ما شيئًا غير قابل للقياس: إدراك. نظرة. قرار. عندها، تُحرج الفيزياء. لأنها لا تملك أداة تقيس هذا “الحدث”. ولأنها لا تعترف إلا بما هو قابل للقياس. أما ما لا يُقاس، فهو ليس من شأنها. هكذا تُبنى جدران المختبرات: تصفية الوجود من كل ما هو إنساني، حتى يصبح قابلاً للكتابة على سبورة.

لكن العالم لا يُكتب على سبورة.

العالم يُولد في اللحظة التي ينهض فيها الطفل من نومه ويقول لأمه: أنا حلمت بشيء. يُولد حين ينظر أحدهم في عين من يحب، ويشعر أن الزمن انحنى. يُولد حين تختار أنت أن تفعل شيئًا ضد الاحتمالات كلها.

وبينما يُعظّم الفيزيائيون من فكرة “التنبؤ”، يتجاهلون أن أكثر ما يغيّر الواقع، هو ما لا يمكن التنبؤ به: الإرادة، القفزة، المعجزة. كم مرة قررت فيها أن تفعل المستحيل؟ كم مرة فعل فيها قلبك ما لم يتوقعه العقل؟ كل هذا، لا يُرَحَّب به في المعادلات.

لكن المعادلات لم تصنع الوجود. فقط وصفته بعد حدوثه.

ولذلك، فإن ما لم تقدمه الفيزياء حتى الآن، هو التفسير الكامل للحظة. اللحظة ككثافة وجود، لا كنقطة في الزمن. اللحظة ككائن، لا كمتغيّر مستقل. اللحظة التي تقول فيها الأشياء لنفسها: كن. وهذه “الكنّية” لا تُقال إلا حين يتطابق الداخل والخارج، حين يصبح الحاضر أعمق من المسافة.

ما من فيزياء حتى الآن استطاعت أن تُعرّف الحضور. أن تقول لماذا يشعر الإنسان أنه موجود. أن تُعرّف الثقل الوجودي. أو تكتب معادلة تصف كيف يُغيّر الحُب انحناء الزمن.

ولا فيزياء شرحت لماذا يشعر المريض بالوقت مختلفًا عن الطبيب. لماذا تختلف الدقيقة على الكرسي الكهربائي عن الدقيقة في حضن الأم. لماذا تبدو الأيام أسرع حين نكبر. كل هذا، يُقصى من النظرية. وكأن الوجود المجرّب لا قيمة له أمام الواقع المحسوب.

ومع ذلك، يعيش البشر في المجرب، لا في المحسوب.

يتخذون قراراتهم في الضوء الذي لا تقيسه أجهزة قياس الطيف، ويصنعون أقدارهم بأيديهم، لا بكتلهم. يمرضون حين ينكسر المعنى، وليس حين ترتفع درجة الحرارة. ويموتون أحيانًا لأن شيئًا لم يُرَ، انكسر داخلهم.

هذه ليست ظواهر ميتافيزيقية. إنها فيزيائية، ولكن الفيزياء لم تُدرك بعد كيف تراها.

الفجوة بين الفيزياء والتجربة الإنسانية لم تُردم. لأنها لم تُعترف أصلًا. وكأن البشر ليسوا موضوعًا للعلم، بل متفرجون عليه. وهذا وهم. لأن الإنسان هو مركز السؤال، وهو مصدره. والمخاطَب بالجواب.

ولذلك، فالعلم بحاجة إلى نظرية، لا تشرح كيف يتحرك الإلكترون، وانما لماذا يتحرك. لا تكتفي برصد الجسيم، ولكن تفهم كيف يصبح إدراكه للآخر محفزًا للتغيير. لا تعتبر الزمن خلفية، بل تفهمه كسريان وجودي. لا تضع الوعي في الهامش، وانما تجعله أساسًا.

أليس من الغريب أن الفيزياء لا تعرف كيف تبدأ اللحظة؟

ولا تعرف متى تنتهي؟

ولا تملك تعريفًا لـ”الآن”؟

ولا تعرف كيف يتراكم الشعور؟

ولا لماذا يتغير طعم الوقت؟

ولا لماذا يُغمى على الذاكرة حين يُجرح القلب؟

ولا لماذا ينهار الجسد تحت صوت واحد؟

الفيزياء لا تملك إجابة.

فهي تعرف ما الذي سيحدث للجسيم لو وُضع في مجال كهربائي، لكنها لا تعرف ماذا يحدث لك حين ترى صورتك بعد عشرين عامًا.

لا تعرف لماذا تهتز يدك حين تكتب اسم أمك على قبرها.

لا تعرف ما الذي يوقف الزمان عند أول قبلة.

هي، فقط، تعرف كيف تحسب الزمن.

لا كيف يُصنع.

تعرف السرعة..لكنها لا تفسر لماذا يقرر أحدهم أن يقفز من قطار وهو على قيد الحياة…ولا تعرف لماذا يعود آخر من الموت بمجرد أن سمع صوت أمه.

تعرف الجاذبية..ولكنها لا تعرف لماذا يشعر رجل بأنه مُلقى في الفراغ، رغم أن جسده فوق الأرض.

تعرف التوسع الكوني، لكنها لا تعرف لماذا يشعر الإنسان أحيانًا أنه يضيق حتى يختنق.

لا تعرف الفيزياء كيف تُولد الذكرى.

ولا كيف تنفجر الرغبة.

ولا لماذا تبكي العين حين ترى وطنًا كان في الحلم.

ولا لماذا نقرأ القصيدة فنرتجف.

لقد أنتجت الفيزياء آلاف الأوراق، لكنها لم تنتج جملة تواسي بها أرملة.

ولا سطرًا يشرح كيف يتحوّل طفلٌ عادي إلى شهيد لأن قلبه قال له: هذا هو الحق.

ولا كلمة عن المعجزة التي تحدث حين يمشي رجل أعزل باتجاه دبابة.

هل هذا يعني أن كل ما لا يُقاس، لا يوجد؟

أم أن الذي يقيس، أعمى؟

هل الصمت الذي يملأ اللحظة حين يخفق القلب ليس فيزيائيًا؟

هل البكاء فعل ميتافيزيقي؟

هل الحب خارج عن النظام؟

هل الغفران يُطرد من المعادلة؟

أم أن الفيزياء لم تبدأ بعد؟

ربما آن الأوان أن تعترف الفيزياء بأنها لا تعرف.

أن تنزل من برجها، وتجلس معنا في الليل، تستمع لحكايات الراحلين، وتتأمل أقدام المارة، وتبكي إذا لزم الأمر.

أن تخلع عنها خوذتها، وتقرأ رسالة من أم فقدت ابنها، وتفكر مليًا:

هل هناك شيء في الكون أقوى من قرار أم أن تنجب؟

أو من قرار عاشق أن يسهر؟

إن كانت الفيزياء لا تفسر ذلك، فثمة شيء ناقص.

وإن كانت تعتقد أن ذلك لا يُفسر، فهي ليست علمًا، بل آلة جافة.

الكون أوسع من معادلاته.أعقد من نموذجه المعياري.أكثر شاعرية من تجاربه.

وأشد دهشة من مختبراته.والإنسان ليس “نظامًا بيولوجيًا معقّدًا”، كما يُقال في كتب الطب.بل هو صدى لشيء أعمق، لا يزال العلم يخشى تسميته.

ولهذا فإن ما لم تقدمه الفيزياء حتى الآن، هو ما يجعلها ناقصة. ما يجعلها علمًا يُضيء طريقًا عظيمة، لكنه لا يعرف أين يسير.

الفيزياء بحاجة إلى أن تنظر في مرآة جديدة. لا مرآة تُرينا الجسيم، بل تُرينا أنفسنا ونحن نراه.

ربما حينها فقط، تبدأ الفيزياء في قول الحقيقة كلها

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى