المبعوث في عدن: حضور باهت… ورسائل حوثية بوجه أممي

د. علي العسلي:
زيارة المبعوث الأممي إلى عدن في مطلع يوليو 2025 لم تكن كغيرها من الزيارات السابقة. هذه المرة، لم يُستقبل الرجل من قِبل رئيس مجلس القيادة الرئاسي، في سابقة سياسية لافتة تحمل في طيّاتها رسالة احتجاج غير معلنة، وربما بداية تحوّل في الموقف الرسمي تجاه الأداء الأممي، الذي بات يثير الريبة أكثر من الأمل.
المبعوث جاء إلى عدن لا حاملاً خريطة سلام، بل وكأنه يحمل صفقة تجارية مموّهة: مقايضة استئناف تصدير النفط اليمني بشراء طائرة تُستخدم من مطار صنعاء.
وهذا الطرح بدا فاضحًا في مجافاته للعدالة، إذ تجاهل أن المطار خرج عن الخدمة نتيجة عدوان دويلة إسرائيل على المنشآت المدنية اليمنية، ردًا على صواريخ أطلقها الحوثيون باتجاه تل أبيب!
فهل يُعقل ألا يُدان المعتدي، ويُكافأ الحوثي المتسبّب، وتُبتزّ الحكومة الشرعية لصالحه، بينما تُرتهن معيشة اليمنيين في حال رفض مثل هذا الطرح المجحف؟
لقد أثبت المبعوث بهذه الزيارة أنه لم يكن وسيطًا نزيهًا، بل مجرد “ساعي بريد” ينقل رسائل حوثية بغلاف أممي، مشحونة بالاستفزاز، تُكافئ الحوثي وتضغط على الحكومة، في مشهد يكشف عن خلل خطير في أداء البعثة الأممية.
والأكثر استهجانًا أن المبعوث لم يأتِ ليدين القصف الصهيوني على مطار صنعاء، ولا ليطالب الحوثيين بوقف التحشيد للجبهات، أو التهديد الداخلي، أو التصعيد الإقليمي، بل جاء ليُروّج لفكرة شراء طائرة جديدة من عائدات النفط اليمني، تُستخدم لخدمة تحركات قادة الجماعة الانقلابية، تحت لافتة إنسانية مخادعة!
أما على الصعيد السياسي، فقد بدت زيارة المبعوث باهتة، لا تحمل أي مضمون حقيقي.
فطلبه لقاء الرئيس قوبل بالتجاهل – ليس ترفعًا، بل على الأرجح احتجاجًا صامتًا على أداء لم يعد يُقنع أحدًا.
ومع ذلك، لم يصدر عن مكتب الرئاسة أي توضيح أو بيان، ما ترك الباب مفتوحًا أمام التأويلات، وأعطى انطباعًا بأن الحكومة لم تعد تعوّل كثيرًا على مثل هذه اللقاءات الشكلية… ونطالب مكتب الرئاسة بتوضيح الموقف.
ومما زاد الطين بلّة، أن المبعوث بدأ لقاءاته من مستوى نائب وزير، ثم رُفع إلى رئيس الوزراء الجديد، فقط لأنه أول لقاء به في منصبه!
أما لقاءات المجتمع المدني، فتم الترويج لها وكأنها بديل عن لقاء رأس الدولة، وهو أمر يُسيء للبروتوكول السيادي ويُقلل من شأن التمثيل الرسمي.
والأخطر من ذلك، أن يدعو المبعوث الأممي الحكومة الشرعية إلى تشكيل وفد تفاوضي شامل للمفاوضات المستقبلية – بحسب بيانه الصحفي عن الزيارة – في إشارة ضمنية إلى عدم رضاه عن وفدها الحالي، وكأنّه يشكك في شرعيته أو في تمثيله لمكونات الشرعية كافة.
وهو ما يُعدّ تدخلًا غير مباشر في إعادة هندسة الفريق الحكومي من الداخل، ويضرب وحدة القيادة الشرعية من جذورها.
وكأنّ المبعوث يسعى، عن قصد أو دون قصد، إلى تصوير الأزمة اليمنية كصراع بين أطراف متكافئة، لا بين شرعية دستورية وانقلاب مسلح!
وفوق ذلك كله، لم يتجرأ المبعوث الأممي حتى على الدفاع عن موظفيه المختطفين لدى الحوثيين، بل طرح قضيتهم على طاولة دولة رئيس مجلس الوزراء الأستاذ سالم بن بريك، في إيحاء غير مباشر بضرورة إدراجهم ضمن ملف تبادل الأسرى (الكل مقابل الكل)! فأي عجز هذا؟ بل أي خضوع وانكسار؟!
أما عن جريمة اغتيال الشيخ صالح حنتوش في ريمة، فقد مرّت أمام المبعوث وكأنها لم تحدث.
لا بيان، ولا إدانة، ولا حتى تعزية. صمت مُطبِق يكشف عن خلل أخلاقي لا يمكن التغاضي عنه. كيف يمكن لوسيط كهذا أن يُطمأن له، وهو يغض الطرف عن جرائم الحوثي، ويضع الحكومة الشرعية دائمًا في قفص الاتهام؟!
ثم ماذا عن مضمون الزيارة؟ لا جديد، لا مبادرة، لا رؤية.
فقط تكرار لعبارات جوفاء: “خفض التصعيد، قيادة يمنية للعملية السياسية، سلام دائم…”، حتى أنه في إحاطاته لمجلس الأمن يتفاخر بأن الهدنة – رغم هشاشتها – ما تزال متماسكة!
لكنه، ومن عدن، أعرب عن سَأمه من هذا الوضع بتصريحه التالي:
“على جميع أصحاب المصلحة أن يتحمّلوا مسؤولية نقل اليمن من حالة ‘اللاحرب واللاسلم’ إلى تسوية طويلة الأمد، من خلال إجراءات موثوقة، وقيادة مسؤولة، والتزام حقيقي بالسلام”.
إنه يصنع هذا الواقع المصطنع، ثم يتظاهر بالاستغراب منه! أي منطقٍ هذا؟!
إنها مفارقة سريالية بكل معنى الكلمة؛ تناقضٌ غير معقول، أشبه بمشهد خيالي لا يمكن تفسيره بمنطق الواقع. وكأنه ليس أحد أبرز صانعي هذا الوضع الغامض أصلًا!
وفي النهاية، يريد هذا المبعوث أن تشتري الحكومة اليمنية طائرة لأسطولها تعمل لصالح الحوثيين من صنعاء، بدلًا من أربع طائرات دُمّرت في قصف إسرائيلي – وهي ذات الطائرات التي رفض الحوثي إطلاقها سابقًا قبيل القصف بساعات!
وهذا الشراء هو مقايضة لاستئناف تصدير النفط، هذا ما ظهر، والله أعلم ما خفي أو طُلب أيضًا! بل الأدهى أنه لا يجرؤ حتى على إدانة الاحتلال الصهيوني على عدوانه السافر!
هل باتت الأمم المتحدة مجرد أداة لتمرير اشتراطات الميليشيات؟
لماذا لا تدعم هي ومبعوثها مطالبة الشرعية بتوفير منظومة دفاع جوي لحماية صادرات النفط اليمنية؟
ولماذا تُترك الحكومة الشرعية وحدها في مواجهة القصف والتجويع؟ أليس هذا ابتزازًا مقنّعًا باسم العمل الإنساني؟
إن زيارة المبعوث الأممي الأخيرة لم تكن زيارة سلام، بل كانت زيارة “تسجيل حضور”، مجرد حركة سياسية باهتة، تكشف حجم التآكل الذي أصاب الحياد الأممي.
لقد تحوّل المبعوث من صانع حلول إلى ناقل رسائل حوثية ناعمة، بوجه أممي لا يُقنع أحدًا.
وما لم يُغيّر هذا المبعوث – أو خلفه – نهجه الرمادي، ويُسمِّي الأشياء بمسمياتها، ويدين بوضوح المتسبب الحقيقي في الكارثة اليمنية، فإن وساطات الأمم المتحدة ستبقى مجرد إعادة تدوير للفشل، ومراوحة في مستنقع الابتزاز!