ثورة تعزيّة

رافد البَرّاق/
كأي كائن، الحاجيات البيولوجية ضرورية للكائن التعزي، لكنّها، عندما تُسلَب منه، فتستدعي فعل الثورة، فإنّه يخمدها ويركن إلى الركود والصمت، وتصبح، بالنسبة له، هامشية وتحصيل حاصل.
يخرج الكائن التعزي (بدبّات) فارغة يتحسّس قلب خزّان سبيل أجوف في زاوية ما من حارة، ويهطع خلف الوايتات كما يهطع صغير الغزال اليتيم خلف لبوة مُرضعة، ليملئيها بالخيبة والمرارة.
يدور في المدينة من قبل مشرق الشمس حتى بعد مغربها بساعات ويعود خالي الوفاض محشوء بالغبار والقهر ليلقم الأطفال الفراغ والدموع.
هكذا، كلّ يوم، تولد أزمة في روحه تضاف إلى أزماته البنوية المركبة، دون أن يحرّك لها جفن.
وفي الأخير، يقف على رصيف ماسآته حائرًا وحزينًا يعلك عجزه، ويلعن واقعه.

مما يحدث في تعز المدينة المحاصرة بالشحّة والمجاعة والإرهاب واللامبالة، وحالة الاستسلام الجماعي لطبيعة الأحوال، يبدو أنّ الكائن التعزّي أصبح من جنس بطريقيّات الصمت، لا يهيّجه الملح المترّسب في أحشائه ليستحلب الماء من صخر المؤسسات العاطلة عن عملها في تلبية حاجيات الناس والتي أصبح مقصورًا على جمع الضرائب وتقاسم الأموال داخل المؤسسة وارتباطاتها الخارجية، خارج المؤسسة. ولا الفراغ المتكلّس في تجاويف بطنه يدفعه لاستطعام نفسه وأطفاله من لحم من أكلوا حقوقه وأحلامه وحاضره ومستقبله.
هذا الصمت التعزي غريب وغير معهود، هذا الخنوع المعلن والاستسلام الصارخ للصوص غير طبيعي، ويُظهِر تعز كمكان مهجّن بالنوم ومدجّن بالرضى بالاستلاب.
لم تكُن تعز هكذا من قبل: عجوز هزيلة لا ترتجي سوى الموت.
إنّه صمت فضيع لا يليق بتعز كدينامو ونواة لانطلاق نار الثورة والرغبة في التغيير، وكقلعة للدفاع عن الإنسان اليمني ضد القوى المعادية له وللإنسانية.
ولا يوجد مبرر واحد لهذا السُبات والسكوت الثوري، حتى أنّه ليس هناك قرين آخر يعيش حالة أسوأ منها، لتعقد مقارنة فتقول: إنّني أحسن من غيري.

في تعز أكثر من خمسة مليون عاطش وجائع ومريض وعاطل. لازال هذا الرقم المهوّل لا يستساغ كدافع للغضب الجماعي وتأجيج الشعور بالرغبة بالخلاص؟
تعز التي كانت في الأمس بأظافرها وأسنانها تقاتل بشراسة ووحشية من أجل الحرية والكرامة والمدنية والتغيير، اليوم لا تنبس ولو بكلمة من أجل اللقمة واللتر الماء؟
هل تشعر أن تجربة الأمس خطيئة استوجبت عليهم لعنة اليوم، وأنّ لا طاقة لها للقيام بثورة يسلبها المتسلّقون والكومبرادوريون، لتلحق بهم نقمة الغد؟
هذا التفكير والمنطق الانهزامي ليس من طبائعها ولا يوجد في لغتها الثائرة. إن كانت الثورة خطيئة، فإنّها سترتكبها ألآف المرات. لكن، لماذا لا هذه المرة، حتى الآن؟

مقالات ذات صلة

ألف وألف علامة استفهام أمام الكائن التعزّي، مع ذلك لن تجلب له الإجابات ولو نصف دلو من ماء الخلاص من واقعه المشئوم.
ما الحل؟ هذا هو السؤال الرئيسي الذي يجب أن يطرحه التعزي على نفسه، لا غير.
الثورة، وهو يعلّم أنّ لا إجابة له سواها. نعم، الثورة. فلماذا هذا الصمت الطويل، والخسيس على كل حال؟
ربما يضيع بين أسئلة أخرى ككيف ومتى ومن، لكن عليه أن يوجّه طاقاته نحو شيء واحد فقط، الثورة.

تعز بحاجة شديدة للثورة، ولكن ليست ثورة سلمية تتلخّص بالخروج إلى الشوارع والوقفات الاحتجاجية التي ليست أكثر من صمت متحرّك. هذا لن ينفعها بشيء.
بل إنّها بحاجة لثورة مستلهمة من قلب الإنسان التعزي المغلوب وغضبه وآلامه وجراحاته وأحلامه ورغباته بالخلاص.
ثورة فوضوية حقيقية وشجاعة، تنطلق من الإنسان إلى الإنسان دون شعارات وبيانات، بل حرائق وصرخات غضب.
ثورة يقوم بها كلّ تعزي، الجائع والعاطش والمريض والعاطل، التعزي المقهور والمسحوق، رجلًا كان أو امرأة، ولا يشاركه فيها النخبوي ولا الحزبي.
تعز المحاصرة من كل جانب، لن تتحرر إلا بثورة تنهج الحصار المضاد، تعز الضامئة والجائعة لن ترتوي أو تشبع إلا بثورة تحترف التعطيش والتجويع المضاد.
على الإنسان التعزي، أن يتصعلك بنبل، كأبآئنا الصعاليك العرب، فيحدد أعداءه وأعداء تعز من الأوباش والبلاطجة والمتهبّشين والفاسدين واللصوص، كبيرهم وصغيرهم، فيقوم ضدهم بكل الإجراءات الممكنة:
يقطع قوافل المؤونات التي تُحمَل إلى منازلهم ومن ثم توزيعها بينهم بالتساوي.
أن ينثر المسامير والسكاكين في الطرق التي يمرّون بها بسيارتهم الفارهة فوق معانآت التعزيين، وآهاتهم.
أن يخطف من أفواههم اللقمة كنسر من نار.
أن ينهب ممتلكاتهم وأشياءهم الثمينة ويبيعها ويطعم أخوانه وأطفاله.
أن ينظف مدينته بتجميع القمامات ورميها في منازلهم والمباني القذرة بشرعية النهب وقانون الجبايات.
أن يفعل ضدهم كل ما هو متوجب ويقدر عليه، وأن يفعل ذلك بشجاعة مستميتة.
الإنسان التعزي في ظل هذه الأوضاع هو ميّت أصلًا، فما الذي يخاف منه، وما الذي سيخسره.

إنّهم يستكثرون عليكم الحياة فلا تستكثروا عليهم الموت.

إذا اندلعت الثورة في تعز، ستندلع في كلّ محافظة ومدينة ومديرية وقرية في اليمن.
اليمن بحاجة إلى ثورة تعزيّة،
فثُر يا تعزي من قلبك وغضبك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى