لا نملك ترف الوقوف على الحياد أبدا

عزام دبوان:

منذُ بداية الحرب، وحتى اليوم، لم يكسر روحي أي مشهد قادم من عْزة كما كسرتها مشاهد التجويع تلك، فأمامها يقف المرء مذهولا، ليس لهول الصورة وحدها، بل لحقارة ما آل إليه هذا العالم السافل… أنأكل الطعام، ونشرب الشراب وبنو هاشم جوعى في الشِعب، قالها سّيد ما سادات قريش بدافع النُبل والإنسانية لا بغيرهما، وإنّا والله بأمس الحاجة إلى هذا النوع من النبلاء حتى وإن كان أبا طالب..

ناولني صديقٌ قطعة خبزٍ ناشفة، فبادرَ آخر قائلاً، خذ هذه، فهي أكثر طراوة، ابتسمتُ بوجع، مستحضرًا كيف أننا نعيش في ترفٍ يمكّننا خلاله، المفاضلة بين الخبز اليابس والطري، فيما أخوةً لنا هنالك، يأكلون الرمال، والبعض الآخر منهم من لم يمت بالقصف المباشر يموت بطلقٍ ناري على حدود المحاولة للوصول للغذاء..

أكثر من أسبوع ومشاهد المجوّعين تلاحقني، فكلما وضعتُ كسرة طعام في فمي، أسمع الغزي يهمس بصوت خافت، أنا جائع، فتقتلني العبرة، وكأنني المسؤول المباشر عن تجويعهم، وكأن الجوع صنيعتي، لا صنيعة كل الصامتين أمثالي..

“من قال أن التاريخ ينسى.؟ لا لن ينسى التاريخ ولا نحن وجوه الضحايا، ولا صرخات الأطفال، ولن ننسى أيضًا من كان حاضرًا وغضّ الطرف. فالصورة الأتية من هناك، ليست مجرد صورة، إنها شهادة، والشاهد إمّا أن يكون خصمًا أو شاهد زور”

علينا كشعوب حرة أن نقف أمام كل صورة لطفل يموت جوعا، أن نتفحص كل مشهد فيه تُمتهن كرامة الإنسان الغزي، لا لنبكي، بل لنتذكر حقارة هذا العالم، رافضين العيش وكأن شيئا لم يحدث، وكأن لا صراخ ولا دماء ولا خراب..

احفظوا أسماء الصامتين كما حفظتم أسماء القتلة، فالصمتُ شراكة. دوّنوا كل جريمة، وكل صوت تواطئ مع النازية الحديثة، واكتبوا عن كل صفقة تبرم على أشلاء الأطفال. هذا واجبنا الديني أمام جرائم النازية الصهيونية، التي تُرتكب في قطاع عْزة منذُ قرابة عامين..

لقد فشلت المفاوضات، وكان طبيعيًا أن تفشل، ذلك لأنها لم تُبنَ على عدالة، بل بُنيت على استسلام، فأن يُطلبَ منك كمقاوم أن تسلم سلاحك، ومنك كشعب ألا تعترض على التواجد الصهيوني في رفح ونتساريم وعلى أطراف الغلاف، عليك باختصار أن تسلم ما تبقى لك من أرض مقابل ايقاف القتل، فذلك ليس اتفاقا أو صفقة، بل هو إذلالاً لا يختلف عن شروط استسلام المانيا النازية… وكأن النازي هنا هو المقاوم لا المحتل، وكأن المقاوم هو من اقترف الجريمة لا من يواجهها…

ما يحدث في عْزة ليس مجرد حرب، بل اختبار عالمي لسقوط الأخلاق، لتمزّق المعايير، وانكشاف الزيف في الخطابات والمبادئ. وإنّا لا نملك ترف الوقوف على الحياد أبدا، لأن كل لحظة صمت هي طعنة، وكل تبرير هو خيانة..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى