طرح في قضية الشهيدة افتهان المشهري

عمار السوائي:

عزفت عن تناول قضايا الشأن العام منذ عدة أعوام لأسباب تخصني، لكني اليوم أجد نفسي منجراً بالقوة للحديث عن قضية الصديقة الشهيدة/ افتهان المشهري (رحمة الله تغشاها)، وجريمة الاغتيال الآثمة التي تعرضت لها بذلك القدر من الخسة والنذالة.

إن المنظر المريع لجثة الشهيدة مضمخة بدمها قد استثارت حفيظة كل يمني حر وليست مقتصرة على أبناء تعز دون سواهم، ولكن ذلك المشهد الدامي كان هو النتيجة النهائية لاختلالات جذرية يجب الوقوف عليها ومعالجتها بصرامة ومسؤولية، وسأبدأ من واقع المؤسسة العسكرية انطلاقاً من طرح بسيط ومباشر سمعته من تسجيل مرئي لأحد جنود اللواء 170 وهو يتحدث بلهجة بسيطة (أن تجمع الأقارب والقبيلة كلهم في لواء واحد ستتشكل أمامك عصابة)، ومع عدم إقراري بهذا التوصيف لمعرفتي بكثير ممن يستحقون الاحترام في هذا اللواء، إلا أن هذا الطرح يمثل معالجة إدارية سليمة، فكما يبدو الأمر فقد تشكلت دائرة اجتماعية مسلحة وخطرة في هذا اللواء وغيره لا يوجد في قاموسها عيب أو عار أو حلال أو حرام، وتتعامل مع دماء الناس وأعراضهم وأموالهم باستهتار شديد، ولا تفرق بين امرأة ورجل وطفل فالجميع دمه مباح متى شكل حائلاً بينهم وبين أهدافهم ومصالحهم، وليست هذه القضية الأولى ولا العاشرة ولن تكون الأخيرة إذا استمرت استجابة السلطات والقيادات المدنية والأمنية والعسكرية بهذه الهزالة، فقد تابعت كغيري تسريب المذكرات التي تضمنت توجيهات المحافظ لمدير الأمن بالقبض على أحدهم نظراً لتهديده مدير عام صندوق النظافة افتهان المشهري (بالقتل والتصفية)، وتم الاكتفاء بذلك، فلا يبدو أن إدارة الأمن استجابت للتوجيهات، ولم يقم المحافظ باعتباره رئيس اللجنة الأمنية بالمتابعة والمساءلة، ومن الواضح أن هذه المؤسسات لا تملك نظاماً فعالاً لتقييم المخاطر فهي تتعامل بالحدس تجاه هذه الملفات الحساسة فإذا لم تستجب السلطة بجدية وسرعة وحزم لتهديدات قتل وتصفية تعرض لها أحد قياداتها وفي موقع مهم كالذي تربعت على سلم قيادته الشهيدة افتهان وهو مكتب تنفيذي وخدمي يتصل برضا المجتمع وسخطه بشكل مباشر، فمتى ستكون استجابتها مثالية؟! ، ويبدو أنه أمام هذا الأداء الهزيل تصاعدت القضية وأخذت التهديدات التي واجهتها الشهيدة بمفردها حتى بلغت ذلك المشهد المروع، وهذا بالتحديد ما يجب الوقوف عليه والحديث بصوت مرتفع بخصوصه بعد تكرار الانتهاكات وعدامة الحلول.

من باب التوضيح أود الإشارة إلى أن كل ضمير في تعز وخارج تعز لم ينكسر، وكل هامة لم تنحنِ خجلاً وألماً، وكل وعي لم يتنبه ولم يستفز مع كل جريمة حدثت ونجا فيها القتلة من قبضة العدالة، فإن الجميع سيقضون حياتهم يحملون هذا الخذلان حتى يوارِهم التراب، وكل شخص من قيادات هذه المحافظة بذل مساعيه مهما كان حجمها بمقياس الأهمية والتأثير لتمكين مجرم من الإفلات من العقاب فقد خان شرفه الوظيفي وواجبه الإنساني والديني وحتى مروءته وأخلاقه وقيمه وهو يقف مناهضاً للحق والحقيقة، ومغالباً ما كان من دماء الناس وأعراضهم وحقوقهم.

كم تمنيتُ أن يحتشد المجتمع عن بكرة أبيه رفضاً لهذه الجريمة التي طأطأت رؤوسنا وأصابتنا بالخيبة وكانت صدمة غير متوقعة، لكن من استجابة الشارع يبدو أننا لم نصل بعد إلى القشة التي ستقصم ظهر بعير المدينة النائمة، فلو نظر كل رجل وامرأة وشاب للشهيدة افتهان كابنته أو أخته أو أمه لما وقفنا نتفرج حاملين الخيبة والانكسار لمواجهة الجريمة القادمة، ولما وقفنا نتفرج ونحن نستمع للاشتباكات النارية بين القوات الأمنية التي تتجه للقبض على القاتل وبين الجماعات الخارجة عن النظام والقانون التي تواجه هذه القوات وكأنها تعلن بكل جرأة وصفاقة تأييدها لاستباحة دم الآمنين وتعمل على نصرة القتلة وإيواءهم وتوفير الملاذ والحماية لهم.

إلى اليوم لم يصدر تصريح محترم من أي جهة لاطلاع الرأي العام على تطورات هذا الحدث، ولم يصلنا ما يفيد بأن هناك إجراءات حازمة ونتائج تحققت بهذا الخصوص، وما زلنا ننظر ونتابع مشهداً يبعث على القهر ويثير حمية الناس في تعز، فقد كان من المتوقع أن تتخذ خطوات حاسمة، وهذه القضية كفيلة بتوجيه حملة ضخمة لإلقاء القبض على كل المطلوبين في هذه الجرائم وسابقاتها، وإن لم يوفر غضب الناس وخوفهم فرصة وغطاء مجتمعي لهذه القرارات فلا أمل يرجى من الانتظار، ولن يكون أمامنا سوى مشهد مرير من الخيبة.

يمكن القول أيضاً أن جريمة اغتيال الشهيدة افتهان بدأت مع التغافل عن أول جريمة حدثت ولم يتم ردع القتلة أو تسليمهم للعدالة، وأول قاتل أفلت من العقاب هو قابيل الأول الذي شجع كل القتلة اللاحقين على ارتكاب جرائمهم، وهنا أتحدث عن القتل ولا أترك جانباً غيرها من الجرائم وإنما أكتفي بأم الجرائم (أَنَّهُۥ مَن قَتَلَ نَفۡسَۢا بِغَیۡرِ نَفۡسٍ أَوۡ فَسَادࣲ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِیعࣰا)، وكما ورد في حديث رسول الله (لأن تهدم الكعبة حجرًا حجرًا، أهون عند الله من أن يراق دم امرئ مسلم)، إن هذه الجريمة لم ترتكب يوم أمس في خميس الـ 18 من سبتمبر 2025، بل وجدت فاتحتها وأرتكبت في أول إهمال وتغافل من القيادات الأمنية والعسكرية تجاه أول جريمة وقعت في تعز، وما تلاها من حلقة مظالم لم يصل مرتكبيها إلى قبضة العدالة.

وأخيراً.. من الإنصاف القول أن شباب تعز الذين احتشدوا في مشهد نضالي خالد لمجابهة الحوثي في كل الوحدات العسكرية يستحقون منا كل تقدير، ومن البداهة القول أن كل خطاب يتناول قضية رأي عام ليس موجهاً لهؤلاء الأبطال بأي حال من الأحوال وإنما هو إنصاف لهم برفض كل ما ينال من بطولاتهم وتضحياتهم، كما أن المؤسسة العسكرية ليست المستهدفة ولن نسمح بأي خطاب ينالها، وإنما نوجه كل أصابع الإدانة لمن شذ عن القانون والدين والمروءة والأخلاق والأعراف والقيم، وخطابنا يتضمن شقين: الأول يحمل إدانة للانتهاك والجريمة، والثاني يستنفر القيادات في مواقع المسؤولية القيام بدورها بهذا الخصوص.

ولا أجد مفراً من القول بأن ثقة الناس وأملهم بالعدالة والإنصاف معلقة في رقابكم يا من تجلسون على كراسي المسؤولية من أكبركم إلى أصغركم، والله شهيدٌ بين دماء الناس وأعراضهم وحقوقهم وبينكم، وكفى بالله شهيداً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى