لماذا توقفت المعركة ولماذا نتموضع في الهزيمة

كتب/ عمار التام :
تبدو اللحظة اليمنية الراهنة كأنها حالة ركود إجبارية على هامش التاريخ، لا استراحة محارب أنضجته المعارك فحسب، بل يراد لها أن تتحول سبات أمة تكاد تفقد بوصلتها وتستسلم لعجزها بالرغم من هشاشة عدوها وتفككه وظهور مؤشرات إنهياره.
فبعد سنوات طويلة من التضحيات الهائلة، وبعد أن سُقيت أرض اليمن بدماء أكثر من ثلاثين ألف شهيد، وقرابة مائة ألف جريح، وعشرات الآلاف من المختطفين وهُجّر الملايين من بيوتهم ومدنهم وقراهم، نجد أنفسنا اليوم أمام سؤال موجع… لماذا توقفت المعركة؟ ولماذا نتموضع في الهزيمة؟
بدل أن نصنع طريق النصر من إيماننا بحقنا في الحرية وحق شعبنا في الكرامة؟
لقد أُطرت المعركة وقُيّد الأحرار عن الفعل القتالي المكافح للكهنوت حينما تحوّلت المواجهة من مشروع وطني للتحرير إلى ساحة مصالح ومساومات.
تحوّلت قضية الكرامة إلى معادلة سياسية يُدار فيها الدم بالتصريحات، والأرض بالبيانات، والمقاتل بالوعود.
كان من المفترض أن تكون المعركة طريق الخلاص الوطني، فإذا بها تُحبس داخل أطرٍ إداريةٍ وحساباتٍ فئويةٍ ضيقةٍ، قيّدت حركة الميدان وأخفتت روح المقاومة ، بفعل الخذلان للأبطال في جبهاتهم وجراحهم ومعاناتهم.
فبدلاً من أن تُدار الحرب بعقل التحرير، أُديرت بعقل البقاء في المناصب والتموضع في مربع العجز والهزيمة، فتحولت النضالات الصادقة إلى ملفات تُدار من تحت الطاولات ، لا من قلب الجبهات ولا تلبي الطموحات والتطلعات.
ومع مرور الوقت، تراجع الوهج الوطني وتآكل الشعور الجمعي بالمسؤولية. نُسيت دماء الشهداء وكأنها حكاية قديمة، وتحوّل الألم إلى رقم في تقارير المنظمات، وصار التهجير والنزوح قدرًا مألوفًا.
تسلل الوهن إلى الصفوف، فغدت التسوية المذلة خيارًا مقبولًا، والدفاع المحدود والمستنزف لأبطالنا هو أقصى ما يُسمح به.
وفي غياب المراجعة الصادقة، تراجع الجميع إلى مربعات العجز، وكأننا نخشى مواجهة الحقيقة المرة التي تقول من لا يراجع أخطاءه، يكرّرها حتى الهزيمة.
إن أخطر ما واجه المعركة أنها تحوّلت من ساحةٍ للكرامة إلى ساحةٍ لتصفية الحسابات البينية .
دفنا في ساحات التضحية والفداء دوافع المواجهة وأشواق الحرية والنصر والكرامة ، وكأننا نسينا أن ميادين الدم ليست مقابر، بل منارات تُضيء طريق الكفاح المقدس.
ما زالت أرواح الشهداء تنادي لا تمكثوا في ركامنا، انهضوا منه، اجعلوا من دماءنا وقودا للكرامة وزادا للكفاح ونورا يضيء دروب النضال .
غير أن الاستجابة تاهت بين قيادات غارقة في الخلافات ومشاريع صغيرة تستهلك الطاقة الوطنية، وبين نخبة تحوّلت إلى متفرجٍ يبيع المواقف في بورصة السياسة والولاءات.
تحوّل الأحرار إلى أرقام في دفاتر تجار الحروب والانتهازيين الذين يتغذون على معاناة الناس، ويثرون من وجع معاناتهم، هؤلاء هم أخطر من العدو نفسه، لأنهم يقتلون الأمل من الداخل ويشوّهون معنى النضال وطهره وقدسيته.
حين يغيب الضمير الوطني، تصبح المعركة سلعة تُباع وتُشترى، وتتحوّل القضية إلى ملفٍ قابلٍ للتأجيل والمساومة.
ولعلّ الهزيمة الحقيقية ليست في خسارة الأرض، بل في فقدان الإيمان بالقدرة على استعادتها.
وفي لحظة الهوان هذه، نقف في أكثر نقطة خزيٍ واستكانةٍ في تاريخنا الحديث.
ملايين النازحين يواجهون الفقر والجوع، وأبطال الجبهات يعيشون في الإهمال والنسيان، وجرحى تتعفن جراحهم ومختطفون ينتظرون الإفراج بينما تتناسل الخلافات الصغيرة في عواصم الشتات ومراكز القرار.
صار حديث إعلامنا وناشطينا متابعة صراعات الجُرموزي وجحاف، وما يُثار من سفاسف وأحاديث سوقية عن أبناء المقذيات، بدل أن يكون همّهم استعادة زمام المبادرة وصناعة الفعل الوطني المقاوم.
إن انشغالنا بتفاهات التفاصيل ناتج عن غياب المركز الوطني القادر على توجيه الطاقات نحو الهدف الجامع وهو طي صفحة الكهنوت السلالي والانتصار لكرامة اليمنيين.
من أسهم في هذا التراجع، من قادةٍ وسياسيين وأطرافٍ نافذة، لم يكلف نفسه المراجعة أو النقد، بل تمسّك بمبرراتٍ واهيةٍ تُخفي فشله وعجزه.
من لم يعترف بخطئه لا يستطيع قيادة معركةٍ جديدة، ومن عاش على أعذار الهزيمة لن يصنع نصرًا.
لقد صار بعض القادة عبئًا على المعركة، وعامل هزيمةٍ أكثر منه سببًا للتحرير، لأنهم استبدلوا روح الفداء بروح التبرير، والإيمان بالمشروع الوطني بإدمان المناصب والمصالح والنفوذ وبناء الثروات .
اليوم، لم يعد السؤال عن أسباب التوقف فحسب، بل عن كيفية النهوض من جديد، النصر ليس صدفة ولا عطية من الخارج، بل فعلٌ إراديٌّ جمعي من الداخل يؤمن بالحق والعدالة لقضيته ويقوم بالواجب تجاهها.
ولن تستعيد اليمن مكانتها وكرامتها إلا حين ينهض أبناؤها من ركام الخيبة، يوحدون صفوفهم، ويعيدون للمعركة معناها الأول:
معركة كرامةٍ وحريةٍ ووجود فالمستقبل لا يُمنح للمنكسرين، ولا يُكتب بالاستكانة، بل يُنتزع بالإرادة، ويُبنى بالدم والصدق والعزيمة.
لقد آن الأوان أن نستعيد روحنا الوطنية، وأن نُعيد للمعركة وجهها الحقيقي، لا كحربٍ على الجغرافيا فقط ، بل كصراعٍ على هويةٍ ومصير.
فالكهنوت السلالي لا يُهزم إلا بمشروع وطني يمثل فيه السلاح القوة الصلبة المنضبطة لتدميره وكسر شوكته ، بالدوافع القوية، والإيمان بعدالة القضية، وبمشروعٍ وطنيٍ جامعٍ يعيد لليمنيين ثقتهم بأنفسهم وبمستقبلهم.
إننا إن لم ننهض اليوم، سنُدفن غدًا في ذاكرة التاريخ كأمةٍ تخلّت عن كرامتها ورضيت بالهزيمة وهي تملك كل أسباب النصر.
ولذلك، فإن المعركة لم تتوقف لأن العدو انتصر، بل لأننا نحن توقفنا عن الإيمان بالنصر والعمل لتحقيقه .
واليوم السؤوال لكل الأحرار هل يرضيكم هذا الحال المزري وهل ستتوقف الأمور عند هذا الحد إن لم يكن هناك مبادرة من كل الأحرار لتصحيح الوضع وإصلاح الاختلالات وأخذ زمام المبادرة من جديد .
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.






