أسس هيبة القضاء في نظر القاضي الشوكاني وانعكاس التفريض بتلك الاسس على قضاء اليوم وهيبة

كتب/ القاضي منصور محمد القباطي : رئيس محكمة المواسط والمعافر:

في ذاكرة اليمن يسطع إسم الإمام القاضي محمد بن علي الشوكاني، قاضي قضاة اليمن، الذي حمل رسالة العدل في زمنٍ كان الحق فيه أثمن من الذهب، فخلّدته سيرته مثالًا يُروى جيلاً بعد جيل.

بعد وفاة القاضي العلامة يحيى بن صالح السحولي، استدعاه الإمام المنصور علي بن المهدي عباس لتولي منصب قاضي القضاة، فأبى أول الأمر خشية أن يُستغل القضاء في غير وجهه، ثم قبل بشرط أن يُمنح الحرية والهيبة الكاملة لتحقيق العدالة.

اشترط ثلاثة شروط لا تزال حتى اليوم دستورًا لإصلاح القضاء:

– العدالة فوق الجميع: أن تكون له الولاية للحكم على أقرباء الإمام ووزرائه وقادته، فقال له الإمام: «لك الحق أن تحكم على من فوق سريري هذا».

– استقلال القاضي: ألا يُحبس أحد ولا يُطلق إلا بأمر القضاء وحده، دون تدخلٍ من أي جهة مهما علت.

– كرامة القضاة: أن تُصرف لهم مرتبات تكفيهم عن سؤال الناس وتحميهم من الإغراءات والضغوط.

ولما وافق الإمام، قال الشوكاني كلمته الخالدة: «لك عليّ ألا أضع حجرًا على حجر»، أي أنه لن يستغل منصبه لبناء الدنيا، بل لبناء العدل وحده.

وظل في منصبه إحدى وأربعين سنة لا يخاف إلا الله، ولا يبدّل مواقفه بذهبٍ أو سلطان.

البقرة وورقة القضاء… موقف يهزّ التاريخ

حين تمرد أحد أعيان بني حشيش على أمر القضاء ومزّق ورقة الاستدعاء وأطعمها لبقرته، لم يغضب الشوكاني، بل أرسل دواة الحبر استقالةً صامتة إلى الإمام، احتجاجًا على امتهان القضاء.

فما كان من الإمام إلا أن أمر بهدم بيت المتجبر بمدفع الدولة، ثم أُخرجت الورقة من جوف البقرة، وأُرسل الرجل مكبلاً إلى مجلس القضاء ذليلًا.

كانت تلك الحادثة درسًا خالدًا في أن من يستهين بالقضاء يزلزل أركان الدولة نفسها.

من زمن الشوكاني… إلى واقعٍ يتنفس الألم

اليوم، وبعد قرنين من زمن الشوكاني، يعيش القضاء في بلادنا أزمة تتعدد وجوهها:

شحّ الإمكانيات وانعدام التجهيزات في المحاكم.

ضعف الرواتب وتأخرها، مما يرهق القضاة ويضعف استقلالهم المادي.

سطوة النفوذ والمال التي تتدخل أحيانًا في مجرى القضايا وتغيّر مسار العدالة.

صمت مؤلم تجاه الاعتداءات المتكررة على القضاة جسديًا ولفظيًا دون ردعٍ كافٍ.

التشهير الإعلامي بالقضاة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مما أساء لسمعة القضاء وأضعف ثقة الناس به.

كل هذه الجراح تنزف بصمت، بينما يقف القاضي اليوم أمام جبلٍ من المعاناة، يحاول أن يحكم بالعدل وسط ضغوط الفقر والتهديد والاتهام.

هيبة القضاء… رداء الدولة الذي لا يُمس:

القضاء ليس مرفقًا إداريًا، بل هو رمز السيادة وروح الدولة، فإذا سقطت هيبته، سقطت العدالة، وإذا ضاعت العدالة، ضاع الوطن.

لقد كان الشوكاني يملك سلطته من إيمانه، وهيبته من صدقه، واستقلاله من شجاعته.

أما اليوم، فإن العدالة تُحاصر من كل اتجاه: من العوز، ومن التدخل، ومن التشويه الإعلامي، «القاضي لا يخاف إلا الله، ولا يحكم إلا بالحق، ولا يرضى أن يكون تابعًا لغير الشرع».


ان إصلاح القضاء اليوم ليس ترفًا إداريًا، بل واجب وطني وأخلاقي، فهيبة القضاء من هيبة الدولة، وعدالته من أمن الناس وكرامتهم.

إن إصلاح القضاء يجب أن يأخذ العبرة من موقف الإمام المنصور علي بن المهدي عباس حين تصدى بحزمٍ لمن تمرد على القاضي الشوكاني.

فذلك التمرد، رغم بساطته مقارنةً بما يفعله بعض المتنفذين اليوم من تعطيلٍ لأوامر القضاء أو حمايةٍ للجناة، كان كافيًا آنذاك لتجعل الدولة منه قضية هيبة وعدالة، تدرك من خلالها أن احترام القضاء هو احترام لوجود الدولة ذاتها.

أما اليوم، فإن صمت الدولة أمام من يعتدون على القضاء أو يعرقلون أحكامه هو تهاونٌ في أساس سيادتها وشرعية مؤسساتها.

ولحماية سلطة القضاء، يجب تفعيل نص المادة (165) من قانون الجرائم والعقوبات اليمني ضد كل من يعرقل تنفيذ الأوامر والأحكام القضائية، أو يحمي الجناة والقتلة والمعتدين خلافًا لتوجيهات القضاء، فعدم تنفيذ أحكام العدالة أو التستر على الجناة هو جريمة في حق الدولة نفسها، وتهديد مباشر لسيادة القانون وهيبة القضاء.

رحم الله الإمام الشوكاني الذي جعل من القضاء منارةً للحق والزهد والشجاعة، ورحم الله كل قاضٍ شريفٍ اليوم يصارع الفقر والضغوط والتشويه، متمسكًا بميزان الحق كما تمسك الشوكاني بدواته.

> فإذا سقطت هيبة القضاء، سقطت هيبة الدولة، وإذا ضاعت العدالة… ضاع الوطن.

والله الموفق “””””

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى