كتب محفوظ الشامي.. الطريق إلى حراز

السادسة صباحًا في يوم الجمعة نقر طائر النافذة وراح يستعرض برقصة كان يفرد بها جناحيه كسحابة تطوق السماء كالعشاق الذين ابتكروا حيلًا جديدة لإغراء محبوباتهم كالشعراء الذين يحلقون حول الفكرة ككل الجنود الذين حيوا العلم. لم يكن هذا المشهد القصير مجرد رؤيا لغرض التنبيه والاستيقاظ بل هو سبق خيالي يبشر بيوم أخاذ سترحب الطبيعة فيه بقلب يسكر من سكونها وخضرتها تمامًا كالعصافير التي تشعر بالدواخ حينما تفرط في نقر حبات العنب الناضجة في بساتين “بني مطر”. ومع هذا تصر على الذهاب كل صباح لذات البساتين، هل أصيبت بالإدمان، هذا ليس شأننا ولن نستدعي البيطري ليقرر فتلك حريتها.
خرجت في البكور من البيت كثائر في وجه الروتين الذي حتم عليَّ النوم كل يوم حتى وقت متأخر من الصباح كحر طليق وضع في سجن اختياري وفي نزول الخيط الأول من الشمس إلى الماء انعكس في داخلي النور الذي ظل يطالب به الشعراء لقرون وهم نيام في الظلام. كثيرًا ما شككت في الأغاني التي تقدم الاحساس كشعور يمنح النفس البشرية متنفسًا عميقًا ولكنني آمنت بها وقد أحسست بأن الصباح مكافأة لي وحدي.
تجمع الأصدقاء شباب وفتيات بالقرب من الباص الذي سيقلنا إلى “حراز” فذهب المرشد السياحي لشراء “سندوتشات” سريعة بينما يتبسم السائق وقد أدرك لهفتنا للوصول. “ابسروا البيض والجبن وكل واحد يختار اللي يشتي كلوهن وعنمشي” يقول سائق الباص. شعرت بانقطاع التنفس لبقاءنا في المدينة أكثر وأنا المستعجل لأحلق في أقاصي الجبال وأتنفس بالطريقة التي أريد. إنني أشعر بالغرابة من نفسي كيف يغلبني هذا الشوق وأنا ابن الريف الذي يعي الطبيعة، هل عشرة أعوام في المدينة كافية لإفساد روح تواقة للتأمل والشجن الأول للتراب وللزرع.
بلؤم يلتفت السائق ويعلن بدء الانطلاق، أخرجت على الفور بقايا الطعام من فمي، لا أريد أن يشغلني شيء عن الجمال. وفجأة تحول الباص إلي مهرجان مصغر. الفتيات يثرثرن باستعجال وفيصل العماد يخرج هاتفه اللعين وينادي السائق بأن يسمح له بالارتباط عبر “بلوتوث”. بدأنا بالارتفاع من جبل “عصر” وهناك كنت أنظر إلى صنعاء كمن يطمئن حبيبة قديمة بالعودة.
همست في إذن يوسف العريقي” ذوق فيصل معفن. اكتفى بضحكة غير مفهومة بدت لي ضحكة ماكرة. تجاوزنا “عصر” ووصلنا إلى بني مطر وشيئًا فشيئًا كان الاخضرار يظهر لنا كسحر، آه ما أشد الإغراء في الشجر الواقفة في الحقول. ما ذاك القوام الباهر كأنهن النساء الفاتنات. حتى الجنود في الحواجز على طريق حراز توقفوا عن كونهم لؤما، لقد هذبتهم الطبيعة.
كنت منتشيًا بطريقة لم يسبق لي إن عشتها، وددت لو أصرخ وأخرج مني إلى الطبيعة. ألعب ألهو أفعل ما لا أريد أنا بل ما تريده مني اللحظة لكن الموانع كانت تعيدني إلى القالب الجاهز. أوووف ما أتفه القوالب الجاهزة وما أتعس التعقل. هممت في إخراس الجميع فجأة لكي أقرأ لهم قصيدة درويش “لا شيء يعجبني” ولكنني تجاهلت الفكرة لانصدامي بذوقهم الأقل من عادي. لقد رفضوا جميعًا سماع أغنية “واشرح لها” للعملاق فهد بلان ورفضوا أغاني سفيرتنا إلى النجوم فيروز واستبدلوا بفنانين أخجل من ذكرهم. كيف يصلون إلى عوالم الدهشة وليس لهم سفراء كفيروز؟
لشدة تعلقي في الطبيعة وددت عد الأشجار في الطريق لكنني وجدتها فكرة مجنونة، سار بنا الباص على مهل ولم يخطر ببالي أن أقول للسائق “تعبت فأنزلني هنا” بل كل الأشياء بدت تعجبني. اختطلت رغباتي ببعضها فلم أعد أعرف ماذا أريد على وجه التحديد، هل أدخن سيجارة وأمنح دخانها الحرية في الصعود إلى الغيوم أو أتكأ على حجر يشعر بالحزن لسقوطه من الجبل قبل ثمانية أعوام أو أرقص كغصن شاء حظه أن يقع في وجه الريح.
بثقة يستدير المرشد بدر من كرسي الباص الأول كلما استدعى الأمر أن يعرض علينا معلوماته عن التاريخ والمعالم وكلما اقتربنا من حراز هامت أرواحنا في الأقاصي تسبق خطانا لتضع مراسيمًا لاستقبال يليق. دخلنا الطريق لحراز ففاض الجمال وسكن الجميع عدا من همهمات وتساؤلات عجز بدر عن الرد عليها لتداخلها وكثرتها وتحسن ذوق فيصل في اختيار أغان طربنا بها.
تمشي على الطريق المعلقة والملتوية والخضراء وكأنك تقلب بين يديك جدائل امرأة تركت لك شعرها لتعيده إلى فوضويته. وأثناء توقف الباص تنزل فتحس أن ثمة وصول لا يشبهه شيء. تقف في زمن برهة هي العمر الافتراضي لاستدارتك فترى أمامك حراز الغربية حاضرة بمبانيها الطويلة المعتقة. أحجار تحول لونها كالحلوى وأبواب تفوح برائحة لا تميزها على أنك ترغب بالوقوف أمامها، تعاملها كحاملة للأرواح. أدخنة تتصاعد، نساء تمر على عجالة في الطرق الضيقة، رجل يجر حماره بغضب، رائحة البخور تخرج من نافذة بيت مهدد بالسقوط، انتشار لروائح روث الأبقار، صراخ لمسن يطالب بشيفرة الحلاقة. كانت مشاهد حيوية ومتسارعة ربما لأننا قدمنا في زمن كان يستعد به الناس للصلاة ولتحضير طعام الغداء.
خلال المغادرة لقرية “الهجرة” في حراز الغربية سارع الأصدقاء في تصوير البيوت، هناك حنين يشعر به الإنسان تجاه القديم ولا أعلم كيف يعبر عن الأمر متخصصي الأركلوجيا. وحين عدنا وقعت أعيننا على الشرق من حراز فرأينا جبلًا مكتس بالسحاب قد تزين بالبياض كقديس ووقتها قال بدر هناك الحطيب ستتناولون الغداء بالقرب من السماء.
شعر الجميع بالوقار أكثر ونحن في الطريق إلى الحطيب، إنها طريق لا تشبه الطرق المتسخة بل هي سجاد يقودك إلى معبد أو إلى صرح مشيد. كم تصنع النظافة من مهابة داخل الإنسان. تفحصت وقتها جيبي خيفة أن يسقط كيس حلوى صغير أو منديل في جنة الحطيب فاطمأننت لخلوه. كنا أكثر من عشرة لكننا دخلنا على أننا عشرة في اسلوب مجازي عن العشرة المبشرين بالجنة. إنها الحطيب وتصنيفها قرية ولكنها تفوق المدن في عمرانها وتنظيمها. طرق معبدة بأشجار الزينة، حدائق على الجنبات، ترع وسواقي، إنارات في الشوارع، صناديق مغطاة للقمامة، روائح طيبة، بساتين للثمار، مزارع للخضار، تسبيح لله، هدوء لافت. هناك فقط من بين كل قرى ومدن اليمن يمكنك أن تعيد لذاتك المعنى الحقيقي للجمال.
من حائط الكاتب على فيس بوك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى