مقالة للدكتور أمين عبدالخالق العليمي .. “تعلم فن تظليل القضاء في خمسة أيام”

رواها 360:
في كل زمان ومكان، يحصل النزاع والاختلاف، وهذه ليست هي المشكلة، لكن المشكلة الحقيقية تكمن في أولئك الذين يتخذون من هذا النزاع موسمًا وصنعة لإشعال الفتنة، حتى وإن كان بين فاعلي الخير – ما شاء الله.
وهناك من وكلاء الشريعة، ومدّعي المحاماة، وأحيانًا من أرباب النزاع أنفسهم، من يتفننون في التضليل ويتخذونه حِرفةً يتقنونها بكل مهارة شيطانية.
هؤلاء النفر، أيًّا كانوا ممن ذكرت، لا يطمئن لهم قلب ولا يهدأ لهم بال، إلا حين يرون الشرر يشتعل في أرواح الناس، والكراهية تنتشر بين الأهل والأصدقاء والجيران. يتفننون في خلط الأوراق وتلبيس الحق بالباطل، حتى ليظن المتابع أنهم يجيدون مناصرة الحق، بينما هم في الحقيقة يحرفون مجراه ويمدّون أيديهم ليقتطعوا من حظوظ الآخرين قطعًا من النار، كما ورد في الحديث الشريف عن رسول الله ﷺ:
“إنما أنا بشرٌ، وإنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض؛ فأقضي له بنحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقطع له قطعةً من النار.” (متفق عليه).
هؤلاء الذين لا يكفون عن إشعال الفتن، يتقوتون على أنقاض خسائر الآخرين، ويسعدون بتفاقم الأزمات، كأنهم صناع فوضى محترفون. يتسللون إلى عقول البسطاء بمهارة، ويتحكمون بمسارات أفكارهم وكأنهم ملوك على عروش الأوهام. يلقنونهم بأنهم لولاهم ما كانوا رجالًا، وأنهم هم من يصنعونهم ويهندسون حياتهم. يا لها من مغالطة مقيتة!
يا أهل العقول السليمة، ويا أولي الألباب، أنتم من تصنعون حياتكم، وأنتم من تتحكمون بمصائركم. الاعتزاز بالنفس والرجولة ليست أمورًا يمنحها أحدٌ لغيره، بل هي قيم تولد من الاستقلال في الرأي، والاعتماد على النفس، والإيمان بأن الإنسان هو سيد قراراته وحياته.
لا تتركوا لهؤلاء المتطفلين الذين يتلذذون بإثارة النزاعات الفرصة للتحكم بمفاتيح حياتكم، فإنهم ليسوا سوى أدوات فتنة، ومشعلي نيران الفُرقة والضياع.
لقد بلغ بهؤلاء المتلاعبين حدًّا لا يُطاق؛ فهم لا يكتفون بإثارة الفتنة في الأمور البسيطة فحسب، بل يمضون إلى التفرقة بين الأزواج، وزرع الشقاق بين الإخوة، وتفكيك الروابط بين الآباء وأبنائهم، والجيران والمجتمع. لا يقفون عند حد العداء بين الأصدقاء، بل يسعون لتوهيم القضاء، ويتلاعبون بمسار العدالة وكأنهم يحترفون الخداع والمكر في سبيل تحقيق مصالحهم الدنيئة.
ويا للعجب، كيف يتحايلون على القضاء بحذلقة وفهلوة شيطانية! يظنون أن براعتهم في اللعب بالكلمات والحجج هي قمة الذكاء، بينما هم في الحقيقة يمارسون فعلًا لا يمتّ إلى الإنسانية بصلة. يتلاعبون بالمشاعر، يُفسدون العلاقات، ويضيّعون الحق تحت عباءة الباطل. وأي خسارة أكبر من هذه؟ خسارة العدالة، وضياع الحقيقة بين أيدي الماكرين.
إلى كل من يملك عقلًا سليمًا وفكرًا حرًّا، استفيقوا من وهم هؤلاء المضلّلين، لا تسمحوا لهم بالتلاعب بحياتكم ولا بالتحكم بمصائركم. إن الرجولة الحقيقية هي في الاستقلال بالنفس، والاعتزاز بالرأي، والحفاظ على العدل والحق، مهما كانت الظروف.
فليتذكّر كل من يسعى إلى توهيم القضاء أن العدالة هي نبع الحق، ومن يلوّث هذا النبع إنما يعجّل بهلاك نفسه قبل هلاك غيره.
فلنحفظ عقولنا من شرور هؤلاء، ولنحافظ على روابطنا الإنسانية بعيدًا عن كيدهم وحقدهم.
لا أعني بقولي هذا أحدًا بعينه أو بشخصه، وإنما هي عامةٌ وللجميع، ومن على رأسه بطحة فليتحسّس…
وأقم الصلاة.