علي الكينعي .. النموذج المختلف للمثقف العصامي

محمد عبد الوهاب الشيباني:
ببنيته الصغيرة ،وشعره الأسود الداكن الذي لم يترك للبياض منفذ للتسلل لرأسٍ تعترك مع الحياة منذ خمس وخمسين سنة، بملابس أقرب لملابس “السكيورتي ” يطل علينا في معظم صباحات المقهى وبيده كتاب غالبا يكون باللغة الانجليزية عن اليمن أو الشرق الأوسط أو العالم، وبيده الأخرى غالباً ممسكاً بواحد من توأمه اللطيفين ذوي السنوات الأربع ( أمجد ومجد) وأو شقيقهم الأكبر الحبوب يوسف. وحين يغيب عن المقهى نعرف تلقائيا أنه في وردية عمل صباحي.
علي أحمد الكينعي.. أعرفه منذ أكثر من ثلاثة عقود ، حين كنت اشاهده برفقة أحد أصدقائي في السكن، لكننا منذ أعوام صارت تجمعنا صباحات المقهي .. هو باختصار مثقف عصامي؛ بنى نفسه بنفسه منذ المنحدر الصفري وكابد طويلا ليصير رب أسرة ناجح ومثقف رائع، لم تفت من عزائمه أهوال الحياة ..
في العام1970 ولد في قرية الشعور الواقعة في أحد سفوح جبل سمارة الغربية بمحافظة إب.. ظلت والدته تذكِّره طويلاً أنه كان طفلا معتلاً ،صغير البنية لم تتوقع أن يعيش طويلا، لولا أن قُيَّضَ له الجد الذي كان في إحدى زيارته للقرية فأخذه إلى المشفى السويدي للطفولة بتعز( النقطة الرابعة) وبقي فيها اشهرا طويلة، يُعتني به من قبل الأطباء والممرضات دون أي مرافق، عدا الزيارات الخاطفة التي كان يقوم بها الأب لصغيره المريض بين وقت لآخر.
حينما عاد إلى القرية كان طفلا مختلفا؛ ببنية صحية غير معتادة لمن عرفه وملابس حديثة، غير تلك الأسمال التي وصل بها إلى المشفى ولم تزل أشباهها تُلبس بواسطة أقرانه من أطفال القرية.
في زيارة ثانية للجد إلى القرية بعد سنوات أخذه معه هذه المرة إلى صنعاء من أجل تعليمه.. يقول علي عن جده أنه كان شخصاً مميزاً ومؤثرا.. عاش حياته الأولى يتيما فقيرا جائعا ،ومع اشتداد مواسم الجوع والاستبداد غادر القرية باتجاه المخا ومنها وصل بحراً إلى أسمرا بزعيمة لنقل الماشية، وهناك اشتغل في مهن كثيرة وكان مثل أغلب المهاجرين اليمنيين يرون في تغيير نظام الحكم واجب ديني وأخلاقي، بعدما تكشف لهم تخلفه وانعزاليه وكهنوتيته وعنصريته، ولهذا كان داعما لحركة الأحرار من خلال التبرعات التي كان يمنحها، وحينما عاد إلى اليمن مطلع السبعينات كان يلبس ملابس عصرية ويتكلم بلسان طليق قادر على التأثير على محيطه، وكان كثيرا ما يقدم نصائح مهمة لأقربائه في كيفية التعامل مع الحياة التي تبدأ أولاً من الانخراط بالتعليم.
كان وقتها الجد يعمل في البنك المركزي ويقيم مع زوجته الشريفة الصنعانية بجوار الكهرباء بحي القاع، فمنح الطفل القادم من الريف البيت حياة جديدة.. الحق الجد حفيده ذي العشرة الأعوام بمدرسة العلفي القريبة من المسكن.. يقول علي أن الحياة الجديدة منحته شغفاً قرائياً مرتفعاً، فوجد في مكتبة الأنوار وكشك القاع القريبان من المدرسة ضالته في شراء قصص الأطفال وبعض المجلات الملونة، وبقي هذا الشغف ملازما له حتى اليوم.
بعد إكماله الابتدائية انتقل لمدرسة 26 سبتمبر بجوار المباني القديمة لجامعة صنعاء بالدائري الغربي، وبعدها إلى مدرسة هائل سعيد بحي هائل حيث أكمل الثانوية.. في تلك الفترة عاد أخوه الكبير من السعودية وفتح ورشة للألمنيوم فعمل فيها لفترة، قبل أن ينتقل للعمل في قسم النسيج في مصنع الغزل والنسيج .. كان وقتها قد أحدث فيه الصديق د منير سيف العريقي تأثيرا ايجابيا في تعلم اللغة الإنجليزية.. وهو ما دفعه للالتحاق بالمعهد الوطني في دورات مسائية مكثفة برسالة تحصلها من المصنع.
وحتى تتقوى لغته بالحديث المباشر كان يذهب برفقة زملاء له من المعهد إلى التحرير، حين كان يرتاده سياح وأجانب ومرشدين سياحيين. هذه الطريقة مكنته من بناء علاقات طيبة مع وكلاء السياحة ومن خلالها بدأ يعمل لحسابه الشخصي كمرشد سياحي لجروبات صغيرة يرافقها في المدينة وضواحيها وبعض المحافظات القريبة. وعمل ايضا في تدريس أجانب غير ناطقين بالعربية، غير أن الوضع الأمني المنفلت وظاهرة اختطاف السياح جعلت من المضي في هذه المغامرة صعباً جدا. لكنه كان قد بدأ بالاندماج في مكتبات المراكز الثقافية الأجنبية بصنعاء للمطالعة والاستعارة.
ومع انفجار الحرب وتمددها صارت مكتبات الأرصفة في التحرير ملاذه الوحيد والتي أصبحت تستقبل وبشكل دائم عشرات العناوين التي تخلص منها أصحابها إما بالسفر أو الموت أو الحاجة، ومن مقتنياته اليومية تقريبا شكل مكتبة محترمة ينفق عليها من دخله الشحيح بدون أي ندم.
