قمة المنتجويك … حين تتصافح العبقرية مع الجنون

كتب/ خطاب ناصر
رواها 360:
هرب برشلونة بنصف المجد، وترك النصف الآخر يتسكع في شوارع ميلانو … تعادل بثلاثة أهداف لمثلها، لكنه لم يكن تعادلًا بالمفهوم الكروي العادي، بل هدنة مؤقتة في حربٍ لا تعرف الرحمة، هدنة تشبه المصافحة بين ندّين يعرف كل منهما أنه كان أقرب إلى القتل منه إلى السلام.
في ليلة المونتجويك، لم تكن كرة القدم لعبة، بل كانت ارتجاجًا كرويًا في كوكب المونتجويك.. ستة أهداف خرجت من رحم الدهشة، عشرات الفرص، ارتباكات، انبعاثات، تقلبات، وارتجاجات عصبية في دكة كل مدرب. جمهور المونتجويك تحوّل إلى مذبح للعاطفة، لا يعرف هل يصرخ للفرح أم ينوح للحسرة. كل دقيقة كانت فصلًا منفصلًا من رواية تُكتب بلا مؤلف.
كان الملعب كأنه مسرح أبيقوري، تعالت فيه أنغام الإبداع وسقطت فيه النظريات، تحول المستطيل الأخضر إلى حلبة صراع بين فلسفتين كرويتين، بين شاعرية التيكي تاكا وجبروت الواقعية الإيطالية، بين سعي الحالمين ومكر البراغماتيين، لكن لا أحد انكسر، ولا أحد ارتقى وحده إلى العرش، كأنما شاءت الكرة أن تظل عادلة، تمنح كلًا منهما كأسًا من المجد المر.
بعد الريح الطليانية العاتية التي جعلت من كاتالونيا كأعجاز نخل خاوية .. بدأ الإنتر يتفكك كأن الكرة قررت إعلان العصيان على الواقعية الإيطالية ، ظن الجميع أن برشلونة سيمطر، سيبيد، سيحول النييرازوري إلى سماد تكتيكي، لكن المدرب إنزاغي رفض أن يكون أضعف الإخوة، وانتفض على فلسفة العجز، فأطلق كلابه من ربقة الدفاع إلى جنون المرتدات.
فليك دخل المعركة كمن يخطط لثورة شعرية، أرادها حفلة تيكي تاكا، ولكنّ رياح الطليان جاءت بما لا تشتهي دفاتر التكتيك ، برشلونة ظهر كالإعصار، عاصفة هجومية يقودها لامين جمال، ذاك الفتى الذي يلعب وكأن عمره سبق الكرة نفسها ، كان يرسم الخطوط العريضة لأفكار فليك، يعزف بأقدامه جملًا لا تفهمها إلا الشباك، لكن خلف كل لحن هناك خلل في الإيقاع.
الدفاع الكتالوني، كعادته، يشكو من فقرٍ بنيوي، هشٌ كجدار طينيّ في مهبّ رياح الطليان ، إنتر ميلان عرف من أين تُؤكل كتف برشلونة، فبعثر التمركز، ونسف التوازن، وكأن مدربه إنزاغي يحمل في جيبه خارطة نقاط الضعف الكتالونية … لم يكتفِ بالمراقبة، بل أطلق الرمح تلو الرمح على قلب برشلونة، وكل سهم كان يضرب بدقة عاطفية قبل أن يكون تكتيكية.
أراد برشلونة أن يُهاجم بكل شيء، ففقد أشياء، وأراد إنتر أن يصمد ويغدر، فغدر فعلًا ، لكنه نزف كثيرًا في الطريق ، المباراة كانت مفتوحة ككتاب متمرد، لا يحترم فهرس المنطق، ولا يخضع لتسلسل السرد … كل هجمة كانت خيانة محتملة، وكل مرتدة كانت كمينًا في صحراء الاستحواذ.
رافينيا لعب كقائد جيش غاضب، يسجل، يوزع، يُربك، يُخادع، ثم يعود كأن شيئًا لم يكن ، أما في دفاع برشلونة، فحدّث ولا حرج، الخطوط مفتوحة كذاكرة مُسنّ، تنسى كل ما يُلقّن لها بعد لحظة واحدة من التيه.
في الجانب الآخر، إنتر لم يكن فريقًا تقليديًا، بل كتيبة تسير على حافة السكين، تعرف متى تضرب، ومتى تختفي ، لم يلعب إنتر كثيرًا ، لكنه حين لعب، زلزل الأرض تحت أقدام الحالمين ، كل هجمة مرتدة كانت عاصفة مختزلة، وكل هدف كان تلويحة يدٍ ساخرة من عقلية الاستحواذ العقيم.
اللقاء كان شطرنجًا يُلعب على نار لا تبرد، كل نقلة كانت تساوي صرخة، كل هدف كان بمثابة طعنة أو إنعاش، كان فليك يحاول إعادة تشكيل المجد، لكن إنتر جاء ليقول: نحن لسنا ديكورًا في أحلامٍ كتالونية.
وبرغم كل ما حدث … لم يفز أحد ، المباراة كانت عظيمة لدرجة أن الفوز لا يليق بها ، تقاسما المجد كما تتقاسم الأديان الماء المقدّس، وتفرّقا وكلٌ يحمل في يده نصف الكأس، ونصف الحريق ؛ لكن من المؤكد أن كلا الفريقين غادر الملعب منهكًا ، متورمًا من الجمال، مطعونًا من الدهشة.
الآن تتجه الأنظار إلى ميلانو، وقد لا تكون مباراة، بل قد تكون قيامة تكتيكية .. ستُقام الموقعة الحاسمة … هناك لن تكون المباراة فقط، بل سيكون الامتحان الأخير للفلسفات ، فليك سيقاتل من أجل مشروعه، وإنزاغي سيحارب دفاعًا عن فكره، والجمهور … سينتظر نشيد النهاية، علّه يكون أكثر عدلًا من جنون البدايات.