صباح الشرعبي… الأم التي أنقذت المدينة

فجأة مع الحراك النسوي الذي تشهده مدينة تعز تذكرت صباح عبدالمجيد عبدالله الشرعبي.
ففي ركن من أركان تعز، إذ تتناثر الأحلام كما نرى بين ركام الحرب وتعلو آهات المدنيين على ضجيج البنادق، تتسلل حكاية امرأة لا تُشبه غيرها.
امرأة لم تأتي لتُعلن عن نفسها، بل لتُعلن عن تعز، عن جرحها النازف، وكرامتها المتبقية، وحقها في الحياة.
على إن صباح الشرعبي لم تكن مجرد اسم في قائمة نساء العمل العام في مدينة تعز، بل كانت قلبا نابضا بالوفاء، أما تُرضع للمدينة طمأنينتها، وقيادية ناصرية تُؤمن أن من لا يخدم الناس لا يستحق أن يقودهم.
والشاهد ما إن تتجول في أزقة تعز، أو في صمت أريافها، حتى تصادف أثرا من آثار هذه المرأة..
في مركز صحي رممته، في حملة إغاثية نظمتها، في برنامج تدريبي عقدته لبنات الريف كي يحملن مشاعل التغيير.
ومنذ أن فتحت الحرب جرحها في خاصرة تعز، كانت صباح هناك.
أول من ركض نحو الألم، وأول من حمله على كتفيه كما تُحمل الأمانة.
لم تنتظر عدسة كاميرا، ولم تسع إلى منصة تكريم. بل كانت تقيس قيمة ما تفعل بقدر ما يمسح من دموع الناس.
هي رئيسة اللجنة الوطنية للمرأة في محافظة تعز، لكن هذا اللقب الذي تحمله صباح ليس إلا واجهة متواضعة لجهد إنساني ضخم، ومدى أخلاقي لا يُقاس.
صدقوني ففي وقت كانت فيه حقوق النساء تُنسى على أرصفة الحرب، كانت صباح تكتب، تخطط، تحشد، وتنفذ.
بل لم تكتفي برفع شعار القرار الأممي 1325 الخاص بتمكين النساء في بناء السلام، قدر ما جعلته خريطة طريق، ووقودا لحملات المناصرة التي سعت بها لتمكين النساء في كل زاوية من زوايا المحافظة. ومع ذلك تعرضت لحملات ترهيب كأنها تكفير من قبل النائب البرلماني عن حزب الإصلاح عبد الله احمد علي العديني.
والحق يقال إنها المرأة التي وقفت في قلب المعركة حين انهار كل شيء، ولم تضعف حين اختطفها الحوثيون في بداية سيطرتهم على المدينة عام 2015.
فيما تستحق أن تُكتب باسمها حكايات البطولة النبيلة. إذ لم تكن مجرد محتجزة، بل كانت عنوانا للمقاومة الناعمة، الصلبة من الداخل، المؤمنة أن الكلمة الحرة قد تكون أقوى من الرصاصة، وأن صوت الحق وإن تم تكميمه لا يموت.
ولقد كانت الساعية الأولى، مع رفيقاتها، لإزاحة ركام الحرب ليس عن شوارع المدينة فقط، بل عن صدور أهلها.
كما كانت تحمل، حرفيا، الأنين على كتفيها، وتوزعه على جهات العالم كي يسمعوا. بين موجات النزوح، وانهيار المؤسسات، وانطفاء الحلم التحرري، كانت صباح تضيء فانوسا صغيرا في كل منزل، حتى صار نور المقاومة عادة.
هي ذاتها صباح، المعلمة والمربية، التي لم تكن فقط تقف مع الطالبات في المدارس، بل مع النساء في الساحات، ومع المجتمع في نزاعه الأزلي بين البقاء والاستسلام.
كما لم تكن امرأة طيبة فحسب، قدر ما هي صاحبة موقف ومبدأ، مثلت الخط النقي الذي لم تلوثه الموازنات السياسية ولا خيبات المرحلة.
بمعنى أدق لم تكن ابنة مدينة تعز فقط، بل ابنة لكل القرى التي كانت تخبئ نساءها خوفا من الحرب، فذهبت إليهن صباح تقول: قوموا، إنكن نصف النجاة.
لذلك كله ونحن في خضم الحراك النسوي الراهن في تعز، تعود صورة صباح الشرعبي ببهائها وموقفها.
يعود اسمها في حديث الصديقات، وفي ذاكرة مناضلات تعلمن منها معنى أن تكوني امرأة بقامة جبل.
صدقوني يتذكرها الناس فجأة مثلي الآن ، ولكن حضورها في واقعهم لم يغِب.
ففي كل فعالية نسوية، وكل مبادرة توعية، وكل صوت يُطالب بحق النساء في الكرامة والمشاركة، هناك شيء من صباح، أو امتداد لها.
على إن هذه المرأة هي قدوة في عالم يتكاثر فيه الضجيج وتقل فيه النماذج الهادئة، الرزينة، والمليئة بالبذل.
وهي قدوة ليست لأنها مناضلة وحقوقية ومعلمة قديرة، بل لأنها كانت أما لمعاناة مجتمع، ومربية لقيم كانت ستندثر لولاها.
وإذا كانت الحكمة تقول إن “وراء كل رجل عظيم امرأة عظيمة”، فصباح الشرعبي وقفت وراء مدينة كاملة، بل جمهورية جريحة، وكانت لها خير امرأة.
حفظ الله صباح الشرعبي، بما تحفظ به الأمهات النبيلات، وأعانها لتظل كما كانت: صوتا من قاع الألم لا يُقهر.
و
لكِ المجد، أيتها المربية، ويا أيتها المدينة الصلبة في جسد امرأة.!