ملك الصعاليك النبلاء.. أحمد النويهي، الشوق الذي لا يهدأ!

في زحمة الغياب الطويل، ثمة حضور لا يغيب، يقتحم وجداننا بصوته الجارح حد النقاء، وضحكته التي تمزج السخرية بالحكمة، وتجعلك تحن إليه كما يحن الطين لأول مطر بعد قحط.
هذا هو أحمد النويهي، رفيق الأرصفة، وصاحب اللسان الذي لا يخشى الصدع، العابر المدن والطبقات، الرافع راية الشغف والتمرد باسم “أنا من بلاد باااااشر ياااليد!”… صوت الذاكرة في زمن فقدان الذاكرة.
في الحقيقة لم يكن النويهي عاديا، فقد كان أشبه بكائن خرج من كتاب الشعراء الضائعين في “كوستاريكا الحزينة” أو من أعماق سوق الملح في صنعاء، يحمل بندقيته اللفظية التي لا تطلق سوى الصدق، ويمشي بجانبك ليحدثك عن عبدالرقيب عبدالوهاب كما يحدثك عن فتوت ملوح.
وكان يحفظ أسماء الرجال كما تحفظ الأم أسماء أولادها. يتلوهم بترتيب العشاق لا حسب الأنساب: عبدالقوي الشيباني، عبدالباسط عبسي، سلطان الصريمي، الباهوت، غالب الصراهم… كلهم يسكنون نبرة صوته المتعبة، لكن المقاتلة.
طبعا عاش النويهي مثل شظية في لحم المدينة، لا تخطئه عيناك في الزبيري أو ش بغداد، يلبس “شبشب أبو حمامة”، يردد “رددي أيتها الدنيا نشيدي”” وهو يداري دمعة، لا تسيل لأن الكبرياء في عينيه كان أعتى من الانكسار.
بل كان ابن جبهة، وابن جيل تربى على صوت الراديو وهو يرصد دقات المعركة في التواهي، ويبحث عن وجهه في الموج حين كان الدم يغمر الشواطئ.
لكنه رغم كل ذلك، ظل عاشقا للحياة، مدمنا للتفاصيل الصغيرة: شمعة، أغنية، صفعة، أو مقهى تغير اسمه وصار يُقال عنه “كان هنا المعمري”!
على أنه كان ومازال ملك الصعاليك النبلاء لأنه عاش حرا، نزيها، متسولاً للكرامة إن لزم، لكن دون أن يمد يده سوى ليشير بها نحو الشمس.
بل كان يمكن له أن يكون سياسيا، أو خطيبا، أو حتى نجما تلفزيونيا، لكنه اختار أن يبقى كما هو: أحمد النويهي، المدرس الذي لو قرأ اسمه طفل في ريف تعز، لأحس أن في دمه شيء من السلالة الحرة المستقلة المشاغبة ، من الثورة، ومن الوجع الصافي، ومن حبر القصيدة الحزينة.
صدقوني لم يكن يوما في صف النهايات المريحة، بل في صف البدايات النادرة، فيما هو من أولئك الذين لا يتكاثرون، بل يُولدون مرة، ثم يرحلون دون بدائل.
عرفته في زوايا الذكرى، وفي شتاء شارع هايل، وفي مقيل يضم خياطا وطبيبا وفيلسوفا ، في حديث عن الشهداء الذين لا قبور لهم إلا أفواهنا.و حتى وهو يتحدث عن عبدالعليم البركاني أو محمد عبدالله البكاري، تشعر وكأن التاريخ يعبر من خلاله لا عنه.
لذلك تشتاقه شوارع صنعاء التي لم تعد كما كانت، يفتقده مقهى، بائع كتب، حتى تلك الرصيفات التي تعلمنا فوقها معنى ” الرفيق”.
كما تشتاقه الراديوهات التي كانت تبث “عدن تقول كذا”، وتشتاقه المواقف الصادقة في زمن الكذب الجماعي.
فيا أحمد، لا نملك إلا أن نحملك في الذاكرة كحقيبة ظهر لرفيق لا يغيب، ونتذكرك كلما سألنا أحدهم: من أين أنت؟ فنجيبه كما قلت ذات صفاء: “أنا من بلاد ألف شاعر وألف عصاد وألف حداد وألف نجار، من بلاد تنتصر لغير” ..””.
فلقد صارت ذكراك طقوسا ووصايا. بل صرت دعوة سرية في قلوب من عرفوك، وحتى من سمعوا عنك على استحياء. سكنت ذاكرة مدينة، ووجدان وطن، وأصبحت المعيار الذي نقيس عليه نقاء الرفاق الرجال… ولا تجد أحدا يضاهيك.
وفي حضرتك، لا املك إلا الشوق. الشوق لكلماتك، لصراخك الجميل في وجه الرداءة، للشتائم الذكية التي كنت ترش بها وجوه الطغاة، للمقيل الذي كان يتحول بوجودك إلى محكمة، ومذبح، وسيرك، ومنبر، وخلوة… ومتحف حرية.
ويا أحمد النويهي، أيها الرمز الذي يشبهنا ولا يشبهنا، أيها الرفيق الذي أخذ معه شيئا منا ومضى… نشتاقك لأنك كنت كما يجب أن يكون الإنسان: هشا كقصيدة، عنيدا كرصاصة، صافيا كقهوة المُغترب، وغامضا كضوء القمر على سطح مقهى “المعمري”.
لذلك سلامٌ عليك،
وكلما قال أحدهم: “يااااليد باااااشر”، وكلما مر موكب شهداء، كلما صرخنا في وجه من أراد لنا أن ننسى.
و
سلامٌ عليك، ما بقي في الأرض رجال يشبهونك.!
..
الصورة..الرفيق الأجمل في ازعاجاته أحمد النويهي
تصويري
صنعاء عام ٢٠٠٩
أشتاق إلى أحمد النويهي
ولو كره الكارهون..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى