هل عمار الزريقي امتداد للكرنيفالية العربية ؟

“مولج لقراءة باختينية”
مصطلح الكرنيفالية صاغه أول من صاغه المفكر الروسي (ميخائيل باختين) فهو الذي أقام البناء التنظيري لها وطبقها أول ما طبقها في دراسة نقدية عن الروائي الروسي (دستويفسكي) أصدرها عام 1929 بعنوان “إشكالية الشاعرية عند دستويفسكي” ثم أعقبها بدراسة أخرى عن الروائي الفرنسي الساخر “فرانسوا رابيليه” حيث كتب مجموعة من الأعمال الروائية المتفجرة بالسخرية والتهكم والانتقاد والخيال الذي يعري الواقع الذي اعتاده الناس .
لقد انطلق الأساس النقدي الكرنيفالي أو الاحتفالي من أنواع الأداء التلقائي الذي قد يصل إلى حد الاحتراف لكنه لا يفقد طبيعته العشوائية أبدا .
ويبدو أن هذه الفلسفة قد لاقت لها صدى وملاذا عند “البردوني” الشاعر اليمني الكبير الذي اتخذها منهاجا يعري من خلاله المجتمع ويفضح ما فيه من مثالب ونواقص في قالب تهكمي لاذع المولود في عام 1929 أي ذات العام الذي ولدت فيه الكرنيفالية على يد (باختين) وكأنهما قد ولدا معا ليتعايشا وتصبح الكرنيفالية منهجا وأساسا فلسفيا للبردوني والذي توفي في الثلاثين من أغسطس عام 1999 تاركا خلفه ميراثا من الكرنيفالية العربية التي تقوم على فنون التهكم والسخرية والفكاهة والهجوم الانتقادي إذ يتحلل الشاعر من التقاليد والأعراف المتوارثة ويخرج عنها مبتعدا عن الواجبات والمسؤوليات والانطلاق في حالة من النشوة والعربدة , وهو في أثناء ذلك يُحَمِّلُ النص الكرنيفالي بالمعاني والدلالات الإنسانية والشعبية التي لا يمكن حصرها نظرا لعشوائيتها وتلقائيتها
لقد بنيت الكرنيفالية عند (باختين) على ثلاثة معايير :
الأول : أن الحاضر الحي المعيش بالفعل هو القاعدة التي ينطلق منها الأديب النَّاصُّ لفهم الواقع الراهن وتقييم معطياته وتشكيل ملامحه ذلك أن الماضي ليس قضيتها رغم أن جذورها تكمن فيه .
الثاني : أنها لا تعتمد على الأساطير والخرافات والتهاويم لأنها تتخذ من التجربة الحية والخبرة المعيشة مصادر للابتكار الحر والإبداع الذي يستكشف الآفاق الجديدة
الثالث : رفضها للتوجه الأحادي أو الفكر المفروض على العقل البشري فهي ترحب بتعدد الأساليب واختلاف الأصوات مهما بلغ التضاد أو التناقض فيما بينها
والمطالع لعبد الله البردوني شاعر اليمن العظيم يرى فيه معايير الكرنيفالية قد تحققت وكأن تلك الفلسفة قد خلقت له وكأن باختين حين صاغ معالم الكرنيفالية كان يعلم أن هناك مولود في اليمن قد ولد في ذات العام قد صيغت تلك النظرية من أجله
فأشهر قصائد البردوني تلك التي عنونها بـ “الغزو من الداخل” يقول في بعضها :
فظيع جهل ما يجري — وأفظع منه أن أن تدري
وهل تدرين يا صنعاءْ — من المستعمر السري ؟
غزاة لا أشاهدهم — وسيف الغزو في صدري
وفي صدقات وحشي — يؤنسن وجهه الصخري
وفي أهداب أنثى في — مناديل الهوى القهري
وفي سروال أستاذ — وتحت عمامة المقري
وفي أقراص منع الحملْ — وفي أنبوبة الحبر
وفي حرية الغثيانْ — وفي عبثية العمر
وفي قنينة الوسكي — وفي قارورة العطر
ويستخفون في جلدي — وينسلون في شعري
ولكن يبدو أن “البردوني” لم يمت ! فقد أبى إلا أن يترك جيلا كرنيفاليا يحمل زَلَّاجَتَهُ منطلقا فوق موجته الساخرة المتهكمة التي تتخذ من الحاضر الحي المعيش بالفعل قاعدة انطلاق لفهم الواقع الراهن وتقييم معطياته وتشكيل ملامحه .
لقد بذر البردوني البذرة حتى نمت وترعرعت لتثمر لنا جيلا “بردونيا” كرنيفاليا على رأسه ذلك البردوني الجديد “عمار الزريقي”
فتلك إحدى كرنيفاليات عمار الزريقي بعنوان “وحيد القرن” يقول فيها :
آخِــــرُ الــشِّـعْـرِ الَّــــذِي يُـتْـلَـى
سَــبِّـحِ اسْـــمَ الـقَـائِـدِ الأَعْـلَـى
الَّــــــذِي سَـــــوَّى، فَــخَـامَـتُـهُ،
ثُـــــمَّ أَدْلَــــى بِــالَّــذِي أَدْلَــــى
اِسْــتَـوَى فِــي عَــرْشِ “آمِـنَـةٍ”
وَهْـــوَ أَمْـــرٌ مُــدْهِـشٌ.. فِــعْـلا
هِــــيَ أُنْــثَـى تَـمْـتَـطِي قَــمَـرًا
وَهْــــوَ كَــهْــلٌ يَــرْتَــدِي بَــغْـلا
وَلَــــهَـــا.. أَعْـــنِـــي لِآمِـــنَـــةٍ..
قِـــصَّـــةٌ مَــهْـضُـومَـةٌ شَـــكْــلا
إِنَّــــهَــــا بِــــكْـــرٌ.. وَأَرْمَــــلَـــةٌ
عَــــاقِـــرٌ.. لَــكِــنَّــهَـا حُــبْــلَــى
غَـــضَّـــةُ الأَفْـــنَـــانِ بَــاسِــقَـةٌ
صَـــدْرُهَــا يَــعْــلُـو وَلا يُــعْـلَـى
جَــدَّفَـتْ بِـالـحَـظِّ وَانْـتَـظَـرَتْ
لَـــمْ تَـجِـدْ مِــنْ قَـوْمِـهَا فَـحْـلا
لــم تـجـد فــي جـيـشها نـصرًا
لا ولا فــــــي أهــلــهــا أهـــــلا
يَــــــوْمَ أَنْ زُفَّــــــتْ لأَبْـــرَهَــةٍ
دَخَـــلَـــتْ قَــــــارُورَةً ثَّــكْــلَـى
ضَـــاعَ فَــصْـلٌ مِـــنْ رِوَايَـتِـهَـا
فِـــي قِـــرَانِ الـشَّـيِـخِ والــمُـلّا
كُــــلُّ مَـــنْ مَـــرُّوا بِـصَـفْـحَتِهَا
يُـهْـلِـكُـونَ الــحَــرْثَ والـنَّـسْـلا
وَالَّــتِـي هَــمَّـتْ بِ”ذِي يَـــزَنٍ”
لَـيْـتَـهَـا هَــمَّــتْ بِ”مَــانْـدِيـلّا”
مَــــــرّةً أَبْــصَــرْتُـهَـا عَـــرَضًـــا
قُـلْـتُ: أَفْــدِي الأَعْـيُـنَ الـنَّـجْلا
ذِكْــرُهَـا فِــي الـسِّـرِّ يُـسْـكِرُنِي
مِــثْـلَ طِــفْـلٍ شَـــارِبٍ سَـطْـلا
مُــنْـذُ حَــلَّـتْ بِــي حَـلَـلْتُ بِـهَـا
صِـــــرْت مُــحْـتَـلّا وَمُــحْـتَـلّا!
كَــــمْ لَـبِـثْـنَـا فِــــي ضَـيَـافَـتِهَا
لَــــسْـــتُ أَدْرِي.. سَـــاعَـــةً إِلّا!
الـــمُـــهِــمُّ الآنَ.. صَــاحِــبُــهَــا
رُبَّــمَــا لَــــمْ يَـسْـتَـطِـعْ طَــــوْلا
كَــــانَ مَـرْفُـوعًـا بِــهَـا.. فَــغَـدَا
فِـــي مَــحَـلِّ الـنَّـصْـبِ مُـعْـتَلَّا
رُبَّـــمَـــا أَلْـــغَــى يَـــــدًا بِـــيَــدٍ
وَاكْــتَـفَـى بِــالـعُـرْوَةِ الـسُّـفْـلَى
إِنَّــــــــهُ وَغْــــــــدٌ كَــسَــابِــقِـهِ
كَـــافِـــرٌ بِــالــنَّـحْـوِ وَالإِمْــــــلا
لَــــمْ يَـــزِدْ وَزْنُ الــكَـلامِ إِلـــى
رَأْسِــــــهِ شِـــبْـــرًا ولا رَطْـــــلا
كُــلَّــمَـا امْـــتَــدَّتْ مِــسَـاحَـتُـهُ
زَادَ رَأْسُ ابْـــنِ الَّــتِـي.. جَـهْـلا
أَنْـــــتَ مَــشْــبُـوهٌ وَمُــنْـحَـرِفٌ
عِــنْـدَهُ.. إِنْ لَـــمْ تَـكُـنْ طَـبْـلا!
اِغْــفِــرِ الــلَّـهُـمَّ لِــــي وَجَــعِـي
إِنَّ قَـــوْمِـــي أَلَّـــهُــوا عِـــجْــلا
كُــــلُّ مَــــنْ سَـــاءَتْ وَسَـائِـلُـهُ
سَــقَــطَـتْ غَــايَــاتُـهُ الـمُـثْـلَـى
يَـــــا قَــوَانِـيـنَ الــسَّـمَـاءِ أَنَــــا
وَاحِــــدٌ مِــــنْ سَــائِـرِ الـقَـتْـلَى
عُــدْتُ مِــنْ مَـوْتِـي لِأُشْـهِـدَنِي
أَنَّ شَــعْــبِــي مَـــيِّــتٌ أَصْـــــلا
تِــلْـكَ آيـــاتُ الـحَـصَانَةِ (مِــنْ
أَجْـلِ عَـيْنَكْ واااا عَلِي مَقْلَى)!
ﺻﻨﻌﺎﺀ – 22 ﺩﻳﺴﻤﺒﺮ 2014 ﻡ
لقد استخدم (باختين) مصطلح { خلع التيجان} من على رؤوس النبلاء والأرستقراطية والكهنوت لتحقيق الهدف من هذا الأسلوب الساخر التهكمي ثم استخدم أسلوب الخروج على الأعراف ليكون إطارا شكليا ومنهجيا سرديا للتهكم الأدبي من الأنماط الاجتماعية والمواقف التقليدية .
وفي النص السابق نجد عمار الزريقي قد أمسك بأدوات الكرنيفالية لتحقيق أهدافه من النص إذ :
1- اعتمد السلوك الغريب الخارج عن المألوف
2- اعتمد التنكيت اللاذع
3- اعتمد المحاكاة الساخرة
4- اعتمد إبدال الدنيوي بالمقدس
5- اعتمد الهبوط بالمحترم إلى مستوى الحقير
إنها ذات الأدوات التي اعتمدها باختين في بناء نظريته الكرنيفالية وتبناها عربيا البردوني وأصَّلَ لها ثم جاء عمار الزريقي ليجني ثمرتها ويقطف قطوفها
إن الكرنيفالية تستخدم أدوات قلب الأوضاع المعتادة والمألوفة رأسا على عقب حتى تبدو في ضوء جديد
(عبدالله جمعة)
الإسكندرية 26 مارس 2017
التاسعة بتوقيت القاهرة