رحلة مع الموت

أحمد جميل:
كنت قد عزمت النية على الذهاب إلى “نتساريم” للحصول على سلة غذائية،
مصطحبًا معي ابن أخي أحمد، هذا الشاب المتفوّق في الثانوية العامة، والذي أصبح المعيل الوحيد لعائلته.
ولنكون من أوائل الواصلين، خرجنا من البيت في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، ظنًّا منا أننا بذلك نسبق الزحام.
بعد ساعة من المشي، وصلنا إلى مدخل النصيرات، وإذا بعشرات الآلاف يتكئون على الجدران، والكل يهمس:
“اخفض رأسك ولا تتحرّك، هناك قنّاص يضرب كل من يتحرّك.”
قال لي ابن أخي: “لا تأبه، دعنا نكمل، هؤلاء يأتون يوميًّا ولا يحصلون على شيء.”
تقدّمنا حتى وصلنا إلى مدخل البريج، وكان المشهد مشابهًا، لكن هنا قالوا لنا: “هناك قنص، وشهداء ملقون على الشارع.”
ارتفعت درجات الخوف، لكن أحمد أصرّ: “دعنا نتقدّم أكثر.”
واصلنا حتى وصلنا إلى “الكازية”، وكان العدد هناك أقل، لكن الخوف أكبر.
قلت له: “يجب أن نتوقّف، أصبحنا مكشوفين، ونسمع الرصاص يصفّر من حولنا، والقذائف تضرب كل المحيط.”
نظر إليّ ابن أخي بنظرة دهشة، وقال: “ننتظر مَن؟ أن يسمحوا لنا؟!”
وقبل أن أردّ، قال: “الآن سنتجمّع 50 أو 60 شخصًا، نرفع أيدينا ونركض نحو الحاجز. هذا هو الحل للدخول.”
قلت له: “سيقتلوننا!”
قال: “أنت وحظك، وإن ركضت فلا تبحث عني، سنفترق، ولن نلتقي إلا بعد العودة… هذا إن عدنا.”
قلت لنفسي: “هي مغامرة مميتة، لكن أولادي يستحقون أن أموت من أجل لقمة عيشهم… أو هكذا كنت أظن.”
بعد 20 دقيقة من الترقّب، تجمعنا قرابة 50 شخصًا، وبيننا خمس فتيات لم يتجاوزن العشرين.
كنا عيّنة اختبارية لباقي الحشود… الكل يراقب: هل سيدخلون؟ أم يُقتلون؟
استجمعنا شجاعتنا، استعنا بالله، رددت الشهادة مرات، وانطلقت بنا الأقدام.
ما هي إلا لحظات حتى دوّى صفير الرصاص، والمصابيح الليلية كشفتنا، وبدأت المأساة:
شهداء بلا رؤوس، آخر يئنّ، وآخر يقول “كتفي”، وآخر “صدري”، وأنا أنظر خلفي، فإذا الطريق قد امتدّ…
العودة موت، والتقدّم موت، لكنني أكملت، قلت: “إن نجوت، لن أعود أبدًا.”
زحفت على الرصيف بين الجثث، حتى وصلت قرب بيت مهدّم، هرولت هاربًا…
أحمل على ظهري الخيبة والفشل، وأقول: “كيلو طحين مقابل حياتي؟!
هل نحن بهذا الرخص؟!”
لعنة الله على حماس، وعلى الاحتلال، وعلى كل من يحتمي بظل الاحتلال.
نُقتل مجانًا…
لقد لعبوا بنا لعبة “القنّاص والطعام”، وكنا نحن الفئران الجائعة.
مزّقونا، وهشّموا هويتنا، كدت لا أعود إلى أولادي…
رأيت الشهيد ممدّدًا، ولا أحد يجرؤ على لمسه، فالرصاصة التالية بانتظارك،
ورأسه تدحرج بعيدًا، تركلها الأقدام المرتجفة من الخوف.
أما أحمد، فقد عاد ببعض المساعدة، وقال لي:
“أنا شاب، لست أبًا ولا زوجًا، إن لم أمُت قنصًا، سأموت جوعًا.”
وصلت البيت الرابعة فجرًا…
نظرت إلى أولادي النائمين، وقلبي يضجّ بالحمد…
صلّيت شكرًا لله، وبكيت.
إخواني…
من قلبي أنصحكم:
هذه مهلكة، هذا موت مجاني.
لا تعودوا إلى هذا الطريق،
من لم يسقط اليوم، سيسقط غدًا.
اتقوا الله في أنفسكم وأبنائكم،
اربطوا الحجر على البطون،
فالله هو الرازق،
ولا تجعلونا فريسة سهلة في لعبة الذلّ والموت.
حسبنا الله ونعم الوكيل.
ملاحظة:
المؤسسة تعلن عبر صفحاتها أن توزيع المساعدات يبدأ الساعة 6 صباحًا،
لكن الحقيقة أنهم يفتحون البوابات الساعة 4 فجرًا،
لتكون الذريعة جاهزة…
ولتبدأ حفلة القتل المجاني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى