عبد الهادي العزعزي: الوعي الثائر والروح الحكيمة

فتحي أبو النصر: عبد الهادي العزعزي: الوعي الثائر والروح الحكيمة
في عالم مليء بالزوابع السياسية والصراعات العقائدية، تبرز شخصيات لا تهدأ ولا تستكين، تسعى جاهدة لتغيير الواقع، وتكسر القيود التي يفرضها المجتمع. ومن بين هؤلاء، يبرز عبد الهادي العزعزي، ذلك الرجل الذي صاغ مواقفه بحكمة وقوة، ليُصبح عنواناً للثورة المستمرة والفكر الذي لا يساوم. في حياته، كان يحمل العديد من الصفات التي لا تجدها في الكثيرين؛ فهو الطيب، الحكيم، اللاذع في مواقفه، والمتمسك بقيمه الثورية الراسخة التي لا تهتز بمرور الزمن.
لقد ارتبط اسم العزعزي بحزب التجمع الوحدوي اليمني بشكل خاص، وكان له دور حيوي في إبقاء الحزب على قيد الفعل السياسي في وقت كان فيه الكثيرون يتكهنون بنهايته. كان وجوده بمثابة البلسم في فترة كانت تجذب فيها القوى المتصارعة أحزابها إلى الزوايا المظلمة. وقد تبين أن العزعزي كان أحد الأسباب التي ساعدت في الحفاظ على حضور التجمع في الساحة السياسية اليمنية بشكل نشط وفعّال، بعيدا عن الصمت والركود الذي كان يهدد بقاء أي حزب في غمرة من الظروف المضطربة.
لكن العزعزي لم يكن فقط شخصية سياسية بارزة، بل كان نموذجا للإنسان المتأمل، الذي يختار طريقا مغايرا عن سبل الآخرين، وفي نفس الوقت يظل مخلصا لرسالته.
وعلى الرغم من إيمانه العميق بالعدالة الاجتماعية والحرية، كان العزعزي يقف بصلابة ضد التقوقع في إيديولوجيات ضيقة، مستندا إلى فكره النقدي الذي يعلي من قيمة الفرد وقدرته على التأثير. فبعيدا عن الهويات الحزبية الضيقة، كان يرى في كل شخص عنصرا من عناصر القوة والتغيير.
في مواقفه، كان عبد الهادي العزعزي يتجنب التورط في القضايا الثانوية التي تضعف الجبهة الداخلية. كان يسعى دائما لإبقاء القضية اليمنية الكبرى في بؤرة الاهتمام، مُصرا على أن السبيل الوحيد لتجاوز الوضع الراهن هو أن يتكاتف اليمنيون جميعا، بغض النظر عن خلفياتهم السياسية، في مشروع وطني موحد. وقد تجلى ذلك بوضوح في تصريحاته التي حملت بين طياتها انتقادًا لاذعًا للواقع الحالي، سواء أكان ذلك متعلقًا بالصراعات الداخلية أو التدخلات الخارجية.
لقد أدرك عبد الهادي العزعزي أن الوضع في اليمن لا يتحسن عبر الشعارات الفارغة، بل من خلال التغيير الجذري الذي يعتمد على المعرفة والتجربة. لذلك، كان العزعزي يُصرّ على طرح أفكار تعكس رؤية عميقة وواقعية للوضع. كان يرى في الأزمة اليمنية مجموعة من المتغيرات التي لا يمكن تجاوزها إلا من خلال الإصلاحات الحقيقية التي تعيد التوازن للوطن وتضمن حقوق المواطن اليمني في كافة مناحي الحياة. كانت هذه المبادئ تبرز في كلمات العزعزي، مثل قوله الشهير: “البلاد ضاعت من يد الجميع، منهم من اتخذ السلبية نموذجا، ومنهم من اعتبر وكيلا للخلق دون سواه.”
ان ما يميز العزعزي عن غيره فهي تلك القدرة الفائقة على الجمع بين مواقف الثوار الشباب وأحلامهم وبين حكمة الكبار. كان يبدو دائما في موقف يوازن بين الأمل والحذر، بين الرغبة في التغيير والواقعية في مواجهته. فقد شهدت حياته عددا من المراحل التي كادت أن تجعل منه أحد رجال السياسة التقليديين، إلا أن تفرده بقي في كونه لا يساوم في المبادئ، ويبقى مُلتزما بالقيم التي يؤمن بها مهما كانت الصعوبات.
وإن كان هناك من جانب يجب أن يُذكر في شخصية العزعزي، فهو استمراريته في طرح الأسئلة الكبرى التي لا يجرؤ الكثيرون على طرحها. كانت تلك الأسئلة بمثابة المنبه الذي يدفع الجميع للتفكير في مستقبل اليمن، بعيدا عن الانقسامات التقليدية التي أضرت بالوحدة الوطنية. فقد ظل يؤمن بأن الوطن لا يمكن أن ينهض إلا عندما يتحقق فيه العدل الاجتماعي والسياسي، وأن الطريق إلى ذلك لا يكمن في النزاعات المسلحة أو الهويات القاتلة، بل في التفكير الجاد والعمل المشترك.
وإلى جانب هذه الصفات، كان عبد الهادي العزعزي أحد المراجع الفكرية التي شكلت منارة لعدد كبير من الناشطين السياسيين في اليمن. فشخصيته المتفردة وأفكاره الثاقبة جعلت منه شخصية محورية في الوسط السياسي، وليس فقط في حزب التجمع الوحدوي اليمني . كما أن تأثيره يمتد إلى مناحي عديدة في المجتمع ، فهو يتعامل مع القضايا المحلية والدولية بذكاء وحكمة، محاولا إيجاد حلول واقعية ترسخ الاستقرار والنمو.
وإذا كانت الحياة السياسية في اليمن قد شهدت العديد من التحولات والانعطافات، فإن اسم عبد الهادي العزعزي سيظل أحد الأسماء التي ارتبطت بها، وذلك ليس فقط من خلال أفكاره الثورية والملتزمة، ولكن أيضا من خلال شخصيته التي لم تفقد أبدا قدرتها على إحداث التغيير، والوقوف في وجه الرياح العاتية التي عصفت بالبلاد.
لذا، يظل عبد الهادي العزعزي واحدا من أبرز الشخصيات اليمنية التي تركت بصمة واضحة على السياسة والفكر اليمني الحديث. سيظل اسمه يتردد في أذهان اليمنيين كرمز للثورة المستمرة، كما سيظل تأثيره حاضرا في جيل من الشباب الذين اقتدوا بنضاله وإيمانه العميق بقدرة الشعب على التغيير.
وياصديقي العزيز عبد الهادي العزعزي، الذي طالما كان رمزا للحكمة والإيمان بالقيم العليا، وكنت دوما أرى فيك ذلك الصوت الثائر الذي لا يهدأ ولا يتعب. أنت الشخص الذي أضاف عمقا وحضورا ليس فقط في الساحة السياسية، بل في كل قلب من أحبك وأعجب بمواقفك.
كنت دوما تعكس في شخصك تلك الصورة النادرة لمثقف ثائر، يحمل في قلبه هموم الناس وواقع الوطن، لا يكتفي بالكلمات بل يترجم مواقفه إلى أفعال. كنت دوما تعبر عن الحياة بكاملها، بكل ما فيها من ألم وأمل، بصراحة لاذعة تارة، وبحكمة لا تجارى تارة أخرى.
ويا عبد الهادي، يا ابا معاوية ،كنت ومازلت الصديق الذي يحمل في قلبه هما عميقا، يعبر عن التطلعات البعيدة للجميع، غير مكترث بالصغائر أو الانقسامات العابرة.با كنت دائما ملتزما بقيمك، ولم تهزك العواصف مهما كانت شديدة.
اليوم، وأنا أسمع صوتك القادم من القرية، أشعر بحنين عميق إليك، إلى تلك الأحاديث التي كانت تجمعنا حول قضايا الوطن، إلى التحديات التي كنت تحملها وتواجهها بابتسامة الحكيم. تحديدا إلى أيام ساحة التغيير بصنعاء إذ كان لديك ذلك القدرة المدهشة على تحويل المعاناة إلى أمل، والنقد إلى تصحيح، والفشل إلى دافع جديد للإنطلاق.
صدقني أفتقدك كثيرا، يا عبد الهادي، فوجودك كان ظل منارة تضيء الطريق في عتمة الأوقات الصعبة، إلا أنك كنت تظل دومت تحمل الحلم في قلبك، رغم كل ما يحيط بنا من ظلمات.
كذلك كنت يا صديقي، كنت تتجاوز الواقع وتعيش في فضاء من الوعي الثائر، لكنك في ذات الوقت كنت قريبا من الناس، قريبت من كل تفصيل في حياتهم اليومية.بل كنت تحمل صوتا صادقا ينبع من قلب الوطن، ولا تساوم على حريته.
أتمنى أن أتمكن يوما من إعادة اللقاء بك، لأقول لك كم أفتقد تلك الأوقات التي كانت تزدحم بالأفكار الكبيرة والآراء العميقة، حيث كانت مواقفك تعكس التزاما لا يتزعزع، وإيمانا حقيقيا بأن اليمن قادر على النهوض من جديد.
إنني أشتاق إليك، يا عبد الهادي، إلى حديثك العميق والجاد، إلى صوتك المتفرد الذي كان يحمل في طياته سعيا دائما نحو اللا يأس، إلى رؤيتك التي لم تقتصر على الزمن الحاضر، بل كانت تتسع لتشمل المستقبل بأحلامه وآماله.
فجأة، وصلني اتصالك من القرية، وكان الصوت الذي سمعته في الجهة الأخرى مليئا بالحياة، كما لو أنك قد عُدت إلى مكانك الذي ينبض بالالق كله.
كنت أعلم أن هذا الاتصال سيحمل معه شيئا من الحنين. ومع كل كلمة قلتها، كانت الذكريات تتساقط أمام عيني كأنها شريط فيلم قديم، ولكن مليء بالمعاني الحقيقية، تلك التي لا تُنسى.
دمعت عيناي وأنا أسمع صوتك، ليس بسبب الحزن، بل لأنك كنت تعني لي الكثير. كنت دائمًا ذلك الشخص الذي يمزج بين الجدية والتعاطف، بين الثورية والعقلانية.بل كنت تضيء المدى بنظرتك العميقة للحياة، وتستطيع أن تحول أصغر التفاصيل إلى دروس ثمينة.
كذلك كنت أسمعك وأنا أعرف جيدا أنك لا تزال كما كنت، لا تغيرك الظروف ولا تعبث بك الأوقات. كنت أسمع في صوتك تلك الثقة التي لا تتزعزع، ذلك الصوت الذي لم يتخلى عن رؤيته للضوء القادم من آخر النفق وحتى في أحلك الظروف.
دمعت عيناي لأنني اشتقت إليك، إلى حديثك الذي يتجاوز الحواجز، إلى تلك اللحظات التي كان فيها الزمن يقف على أطراف أصابعنا ونحن نتبادل الحديث عن الوطن وعن الحياة، عن الخيبات وعن الفقدانات. وعن الممكن و المستحيل.
حقيقة كان صوتك القادم من القرية أشبه بنبضة حياة في وسط من الهموم والمشاغل اليومية.الم تكن دائما تعيد إلي ذلك الشعور بالسعادة الوطنية، بأننا قادرون على التغيير مهما كانت العوائق، وأن كل صعوبة تواجهنا هي مجرد خطوة في طريق طويل نحو الفجر.
والحال أن عيناي دمعت، لأنني أدركت أن اللحظات التي كنا نعيشها معا لا تقدر بثمن.فيما أضافت تلك المحادثة فجأة لمسة من الغبطة والفرح، وأضاءت جزءا من الظلام الذي يحيط بنا.