رحيل صاحبة أول اعتصام للدفاع عن حق المرأة في الاختيار

جميل الصامت :

عن عمر ناهز 120 عامًا، رحلت من تعايشت مع شقاء صبانا، المغفور لها بإذن الله تعالى الحاجة صفية بنت غالب زائد، آخر معمري جيلها.

رحلت جدة لعشرات من الأحفاد والأسباط، وضعفهم من الأبناء والبنات لأحفاد الأحفاد. شقاوة الطفولة والصبا معها لا تُنسى، فقد ظلت ملازمة لثلاثة أجيال متتابعة في قريتنا، حيث كانت الحجة “صفاية” تحكمها شرقًا وغربًا بصوتها الجهوري، الذي لا يخفت إلا نادرًا، معلنة حالة الطوارئ إزاء أبسط شقاوة قد تصدر منا كأطفال.

كنا نتعرض للضرب من الأهالي جراء مشاغباتنا ومضايقتنا لبنت غالب، التي كانت تملك دكانًا صغيرًا في القرية، عبارة عن “صندقة”، تتعرض للرمي بالحصى لاستفزازها، مما كان يدفعها إلى إعلان حالة الطوارئ بسلسلة لعنات وكلمات “بلدية” تجاه الآباء والأمهات.

لا يكاد يمر يوم دون أن نستمع إلى تلك الكلمات، المصحوبة بلعن خفيف أو ثقيل! بعضنا كان يتعمد سرقة “البلس” من شجرتها، أو بعض الحلويات من دكانها، وأحيانًا كانت المضايقة تتم بسرقة أو إخفاء قفل دكانها عنادًا… كانت شقاوة العمر.

وعندما تهدأ من عنفوان حالة الطوارئ، كانت تغني ملالاة أو تحكي لنا بعضًا من تاريخها مع الحياة، وكيف أنها كانت أول امرأة تعتصم أمام بوابة قصر الإمام بالعرضي، حتى تمكنت من مقابلته لتشتكي له قاسم النحلة، شيخ القرية، الذي حاول تزويجها بالقوة من شخص لا تريده. وتمكنت من استصدار أمر ملكي ضد النحلة، ليكون – على ما أظن – أول مرسوم يصدر لقريتنا، وأول اعتصام تنفذه امرأة للدفاع عن حقها في الاختيار.

كنا كأطفال نصغي لحكايات الجدة بنت غالب، لكن سرعان ما كانت تنتفض لتُمطرنا بكلامها المخلوط بالتأتأة والثغثغة والفأفأة، نتيجة كبر سنها وفقدان بعض أسنانها. كنا نقلدها عنادًا، أو ننعتها بـ”العجوز الخرطا”، فتزداد اشتعالًا، لنظل طوال اليوم في موالٍ من العناد والشقداف الذي لا يُملّ معها.

ظلت تحتفظ بأحداث من زمن الأتراك والإمامة، وبعدهم رؤساء اليمن الجمهوري، وكانت لها حكايات مختلفة من مناطق مجاورة، وأخرى من التراث الشعبي، كنا نتحلق لنسمعها منها، حتى بعد مرضها وكبر سنها، فقد ظلت ذاكرتها متقدة بتفاصيل تلك الأحداث.

فقدناها، ولم نتنبه إلى تسجيل الكثير مما تختزنه ذاكرتها إلا في وقت متأخر، لنشعر بالخسارة حين فات الأوان.

الرحمة تغشاها…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى