حين تتحدث وميض شاكر… عليكم الإنصات!

فتحي أبو النصر :

حين تتحدث وميض شاكر، فإنها لا تنطق بكلمات، بل تفتح دفاتر شعب بأكمله. ليست ناشطة فقط، ولا كاتبة فقط، ولا أما فقط. بل هي مرآة للنساء اللائي لم يُسمعن، ولساحات لم يُلتفت إليها، ولأوجاع تم تمريرها في صمت لعقود.

ولدت وميض محمد شاكر الحكيمي من ام ابينية مناضلة في عدن عام 1976، لكن الأصح أن نقول: وُلدت لتكون شاهدة عصر، من المدينة التي كانت تُلقب بـ”لندن العرب” حين كانت تنام آمنة وتنهض على حلم.

ووميض لم تنتظر الضوء الأخضر من أحد لتبدأ النضال، لم تأتي من بوابة حزب، ولا من قاعات المؤتمرات الجاهزة، بل من قلب البيت، من قلب الشارع، من قلب امرأة ترى وتوثق وتبادر وتسأل.!

وعرفتها المنظمات الدولية مستشارة ومرجعية في قضايا النوع الاجتماعي، حقوق الإنسان، التنمية، وبناء السلام.

لكن هذا ليس كل شيء. فوميض لا تكتب التقارير لترف بيروقراطي، بل تسير إلى النساء، تصغي، تسجل، تحول الحكايات المكلومة إلى مواد لتغيير الواقع.

بمعنى أدق هي أشبه بمستكشفة حقيقية في بلد أُغلق على نسائه أبواب الحكاية.

وحين اختارتها هيئة الأمم المتحدة للمرأة “قصة الموسم” على غلاف مجلة جامعة جورج تاون الأمريكية، كانت الرسالة أكبر من مجرد تكريم، بل اعتراف عالمي بأن اليمن ليست فقط حربا، بل أصواتا نسوية تعرف متى تصرخ، ومتى تهمس، ومتى تضيء.

ولقد كانت الحلقة الصوتية التي وثقتها الجامعة أقرب إلى مرآة، نرى فيها كيف تعيد وميض تمثيل اليمنيات، لا بوصفهن ضحايا فقط، بل كصاحبات رأي ومصير.

..”ثورة النسوان”، العنوان الذي يمرر الرسالة بتعاطف ساخر. لكن وميض تعرف تماما وقع المفردات، تعرف لماذا تقول “النسوان” لا ” النساء”، فهي ابنة السياق، ومرآة له، متمردة على النمط، لكنها لا تحلق خارجه. بل تنحت من داخله طريقا جديدا. تسمي الأشياء كما هي، بلهجة الأمهات والجارات والخالات، لا بلغة المانيفستات الجامدة.

ومع كل هذا، هي ليست فوق الواقع، بل بداخله، بكل ما يحمله من نكد وسخرية وحلم.

طبعا من يعرف وميض، يعرف أنها لا ترتدي درعا مثالية، بل تمضي بوجهها المكشوف. كأنها تقول: “نعم، هذه عدن، وهذه صنعاء، وهذه تعز وهذه نساؤنا، وهؤلاء أطفالنا، ونحن هنا.” وهذا ما جعلها أقرب وأكثر تأثيرا.

تعيش وميض في صنعاء، أما زوجها الصحفي والشاعر نبيل سبيع زميل العمر والمنشط الثقافي البارع في القاهرة فيقيم في منفى قسري منذ سيطر الحوثيون على صنعاء.

على إن هذا الانقسام الجغرافي في حياتها لم يفت في عضدها، بل جعل صوتها أعلى، وأوضح.

و بين الوطن والمنفى، صنعت وهجا لأسرتها بل لكل من يريد أن يرى اليمن كما يجب أن يُرى.

هي أم لطفلين، وخبيرة لدى العشرات من الشركاء المحليين والدوليين.

و هذا ليس توازنا صعبا فحسب، بل شهادة على عزيمة نادرة. في الوقت الذي ينهار فيه كثيرون تحت حمل واحد، تحمل وميض قضايا نساء بأكملهن، وتظل واقفة.

ولعل ما يميز وميض أكثر من أي شيء، هو قدرتها على تحويل التجربة الشخصية إلى قضية عامة، دون أن تفقد حسها الإنساني.

أعني إن هذه القدرة على الترجمة من الفردي إلى الجمعي، من الألم إلى الحل، من الصوت إلى الفعل، لا تتوفر إلا للندرة.

والذين يعرفون وميض منذ أكثر من ربع قرن، مثلي ،يدركون أنها لم تأتِ إلى النضال متأخرة، بل جاءت إليه باكرا، بحدس أصيل، وحس إنساني لا يمكن تدريسه.

اليوم، حين تتحدث وميض، لن تحتاج إلى صخب كي ننتبه. يكفي أن ترفع صوتها قليلا، فنصمت نحن، ونسمع. لا لأن صوتها عالٍ، بل لأنه صادق.

بل حين تتحدث وميض شاكر، فإنها لا تنطق بكلمات، بقدر ما تفتح دفاتر شعب بأكمله. قلت لكم هي ليست ناشطة فقط، ولا كاتبة فقط، ولا أما فقط، ولا مناضلة فقط…بل هي مرآة للنساء اللائي لم يُسمعن، ولساحات لم يُلتفت إليها، ولأوجاع تمّ تمريرها في صمت لعقود.

في اللقاء الأخير مع بلقيس اللهبي عبر بودكاست مركز صنعاء، فتحت وميض شاكر النوافذ على مصاريعها.

تحدثت كأنها تزيح غبار السنين عن ذاكرة اليمن، لا بشيء من التردد، بل بكثير من الشجاعة. قالت كل شيء… عن النساء، عن الحرب، عن الخوف الذي صار عادة، وعن الأمل الذي لا يموت.

و ..بدت كلماتها مثل خيوط الضوء تتسلل من قلب الليل، تنسج مرآة لوطن مثقل بالخذلان، لكنه لم يسقط بعد. بل بدت وميض كمن تحمل اليمن في صوتها، لا ترفع شعارا، بل تسرد حكاية.

تحدثت عن الأمهات، عن الجبهات، عن السلام المسروق من حضن النساء، عن الأحزاب ، عن صنعاء التي لم تفقد ذاكرتها رغم الضجيج.و..

كان اللقاء شهادة حية، ووميض فيها لم تكن مجرد ضيفة… بل كانت هي الوطن وهو يتحدث، أخيرا، بصوت امرأة تعرف متى تصمت ومتى تحكي.!

..آخر مرة تقابلنا، كانت صدفة تشبه القصائد التي لا تُكتب مرتين.

في مطار عدن، هي إلى القاهرة واظن إلى نيويورك، وأنا إلى أديس أبابا.

فجأة، رأتني فصرخت باسمي كما تفعل الأمهات حين يلمحن أبناءهن وسط الزحام: “فتحيييي!”

ابتسمتُ، فابتسمتْ، ثم دمعت.

ودمعتنا معا، توحدت وانثالت.

تلك التي ابتسمت لي لنا سنوات مضت ، لم نرى بعضا.. كانت تنادينا من خلف الزجاج. وسمعتها.

سألتني عن الوجهة، فأجبت: “ورشة مؤتمر الشعر الأفروآسيوي.” قالت برقة المُحب: “لا تفوت أكسوم… هناك خط المسند، أثر من يمن قديم في حجارة الحبشة.”

كانت وميض قد كتبت عن إثيوبيا ذات عودة، منها قبل سنوات ،كلمات تشبه المطر حين يزور صحراء القلب.

وهكذا وميض لا تشير فقط إلى الأمكنة، بل تهدينا مفاتيحها، كما تهدي الروح إلى حيث لا تضيع.

عموما استمعوا لوميض شاكر جيدا، فهي لا تحكي حكايات فردية، بل تسرد ذاكرة وطن بصوت النساء. وحين تتحدث، لا تكتفي بالكلمات، بل تفتح نوافذ الفهم، وتوقظ الضمير، وتذكرنا أن اليمن ما زال حيا في صوتهن.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى